التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

قوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } الذين في موضع نصب على أنه بدل أو صفة لقوله : { الذين أحسنوا بالحسنى } {[4379]} أي هم لا يفعلون كبائر الإثم وهو الشرك فإنه أكبر الكبائر جميعا وأما الفواحش فالمراد بها الزنا .

قوله : { إلا اللمم } استثناء منقطع{[4380]} والمراد باللمم صغائر الذنوب . واللمم أيضا طرف من الجنون . ورجل ملموم أي به لمم . ويقال : أصابت فلانا من الجن ( لمة ) وهو المسّ . والملمة بمعنى النازلة من نوازل الدنيا . والعين اللامة ، التي تصيب بسوء . يقال : أعيذه من كل هامة ولامّة {[4381]} . والمراد به في الآية صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال التي لا ينجو منها إلا صانه الله بعصمة أو رعاية . واللمم في قول كثير من العلماء أنه ما دون الزنا . وقيل : ما دون الوطء ، من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة . وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله كتب على آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه " قال القرطبي في تفسير ذلك : والمعنى أن الفاحشة العظيمة والزنا التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج ، وغيره له حظ من الإثم . وذكر عن ابن مسعود قال : زنا العينين النظر ، وزنا الفم التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه . فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم . وسئل أبو هريرة عن قول الله { إلا اللمم } فقال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة . فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا .

وقيل : اللمم كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة . فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش . وقيل : هو الذنب العظيم يلمّ به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه .

فقد روي عن ابن عباس قال : اللمم الذي يلم المرة . أي يلم بالذنب الكبير ثم يتوب . قوله : { إن ربك واسع المغفرة } الله غفار للذنوب وإن كثرت ، إذا اجتنبت الكبائر . فما كان من لمم وهي الصغائر والمحقرات من السيئات إذ تلبس بها المرء فإن الله يعفو عن ذلك بواسع رحمته وعظيم فضله وكرمه لمن تاب وأناب .

قوله : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } يبين الله للناس أنه علمه محيط بهم . فهو عليم بأحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وما هم صائرون إليه . فقد خلق الله الناس من الأرض وذلك بخلق أبيهم آدم الذي خلق من طين ثم خلق منه نسله فجعلهم مختلفين متفاوتين في الطبائع والصفات والأهواء . فالله عليم بذلك كله . عليم باختلافهم في الإيمان والكفر ، وفي السعادة والشقاء ، وفي السواد والبياض ، وفي الحسن والقبح ، وفي الفطنة والبغاء ، وغير ذلك من وجوه الصفات المختلفة .

قوله : { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } أجنة ، جمع جنين وهو الولد ما دام في بطن أمه . وسمي جنينا ، لاجتنابه أي استتاره . أي أن الله ( جل وعلا ) أعلم بالإنسان وقت اجتنابه مستترا في بطن أمه ويعلم رزقه وأجله وعمله في هذه الدنيا ، ويعلم مصيره الذي يؤول إليه من حيث السعادة والشقاوة . فالله لا يعزب عن علمه شيء من ذلك .

قوله : { فلا تزكّوا أنفسكم } أي لا تمدحوها وتثنوا عليها ، فإن مدح النفس يفضي إلى الرياء والمنّة والغرور . وهذه محاذير خطيرة تفضي إلى حبوط الأعمال والخسران .

قوله : { هو أعلم بمن اتقى } الله أعلم بالمتقين المخلصين الذين يطيعون الله ، خوفا من عذابه وطمعا في رضاه .

قال صاحب الكشاف : وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء . فأما من اعتقد أن ما علمه من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده ولم يقصد به التمدّح لم يكن من المزكين أنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر . ويؤيد هذا القول ، ما رواه الطبراني عن أبي موسى ان النبي صلى الله عليه وسلم : " من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " .

ويستفاد من الآية كراهية امتداح المرء صاحبه وهو يرى ويسمع . فقد روى الإمام أحمد عن أبي بكرة قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك قطعت عنق صاحبك " مرارا " إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك " .

وروى أحمد كذلك عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه . فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ، ويقول : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المدّاحين أن نحثو في وجوههم التراب " {[4382]} .

قوله تعالى : { أفرأيت الذي تولى 33 وأعطى قليلا وأكدى 34 أعنده علم الغيب فهو يرى 35 أم لم ينبّأ بما في صحف موسى 36 وإبراهيم الذي وفّى 37 ألا تزر وازرة وزر أخرى 38 وأن ليس للإنسان إلا ما سعى 39 وأن سعيه سوف يرى 40 ثم يجزاه الجزاء الأوفى } .

ذكر في سبب نزول هذه الآيات عدة أقوال منها ما ذكر أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيّره بعض المشركين وقال : لم تركت دين الأشياخ وضلّلتهم وزعمت أنهم في النار ؟ ! قال : إني خشيت عذاب الله . فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله . فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه ، فأنزل الله هذه الآية . وقيل : كان الوليد بن المغيرة قد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل { وأعطى قليلا } أي من الخير بلسانه { وأكدى } أي قطع ذلك وأمسك عنه .

قوله : { أفرأيت الذي تولى } ذلك تعجيب من الذي أعرض عن دين الله وأدبر عن طاعته .


[4379]:البيان لابن الأنباري ج2 ص399
[4380]:المصدر السابق
[4381]:القاموس المحيط جـ 4 ص 178 ومختار الصحاح ص 605.
[4382]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 256، 257 والكشاف جـ 4 ص 33.