فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم وصف هؤلاء المحسنين ، فقال : { الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش } فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأوّل في قوله : { الذين أَحْسَنُواْ } وقيل : بدل منه ، وقيل : بيان له ، وقيل : منصوب على المدح بإضمار أعني ، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي هم الذين يجتنبون كبائر الإثم . قرأ الجمهور { كبائر } على الجمع . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب : { كَبِير } على الإفراد ، والكبائر : كل ذنب توعد الله عليه بالنار ، أو ذمّ فاعله ذماً شديداً ، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل . وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها ، والفواحش جمع فاحشة : وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ونحوه . وقال مقاتل : كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار ، والفواحش : كل ذنب فيه الحد . وقيل : الكبائر : الشرك ، والفواحش : الزنا ، وقد قدّمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ اللمم } منقطع ، وأصل اللمم في اللغة : ما قلّ وصغر ، ومنه : ألمّ بالمكان : قلّ لبثه فيه ، وألمّ بالطعام : قل أكله منه . قال المبرد : أصل اللمم أن تلمّ بالشيء من غير أن تركبه ، يقال : ألم بكذا : إذا قاربه ولم يخالطه .

قال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنوّ والقرب ، ومنه قول جرير :

بنفسي من تجنبه عزيز *** عليّ ومن زيارته لمام

وقول الآخر :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً

قال الزجاج : أصل اللمم والإلمام : ما يعمله الإنسان المرّة بعد المرّة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه ، يقال : ألممت به : إذا زرته وانصرفت عنه ، ويقال : ما فعلته إلاّ لماماً وإلماماً : أي الحين بعد الحين ، ومنه إلمام الخيال . قال الأعشى :

ألمّ خيال من قبيلة بعد ما *** وهَى حبلها من حبلنا فتصرّما

قال في الصحاح : ألمّ الرجل من ألمم وهو صغائر الذنوب ، ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة ، وأنشد غيره :

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** وقلّ أن تملينا فما ملك القلب

وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللمم المذكور في الآية ، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب ، وقيل : هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة ، وقيل : هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب ، وبه قال مجاهد والحسن والزهري وغيرهم ، ومنه :

إن تغفر اللَّهم تغفر جمّا *** وأيّ عبد لك إلاّ ألمّا

اختار هذا القول الزجاج والنحاس ، وقيل : هو ذنوب الجاهلية ، فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام ، وقال نفطويه : هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة . قال : والعرب تقول : ما تأتينا إلاّ إلماماً : أي في الحين بعد الحين . قال : ولا يكون أن يلمّ ولا يفعل ، لأن العرب لا تقول : ألمّ بنا إلاّ إذا فعل ، لا إذا همّ ولم يفعل ، والراجح الأول ، وجملة : { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } تعليل لما تضمنه الاستثناء : أي إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس يخلو عن كونه ذنباً يفتقر إلى مغفرة الله ، ويحتاج إلى رحمته ، وقيل : إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه . ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده ، فقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } أي خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم . وقيل : المراد آدم ، فإنه خلقه من طين { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } أي هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة ، والأجنة جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي بذلك لاجتنانه : أي استتاره ، ولهذا قال : { فِي بُطُونِ أمهاتكم } فلا يسمى من خرج عن البطن جنيناً ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } أي لا تمدحوها ولا تبرؤوها عن الآثام ولا تثنوا عليها ، فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع ، وجملة { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } : مستأنفة مقررة للنهي : أي هو أعلم بمن اتقى عقوبة الله وأخلص العمل له .

قال الحسن : وقد علم سبحانه من كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة .

/خ42