قوله : «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ » يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً «لِلَّذِينَ [ ( أحْسَنُوا ) {[53621]} .
فإن قيل : إذا كان بدلاً عن «الَّذِينَ ]{[53622]} أحْسَنُوا » فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال «الَّذِين أحْسَنُوا » وقال : «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ » ولم يقل : اجْتَنَبُوا ؟
فالجواب : هو كقول القائل : الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد{[53623]} للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة{[53624]} . ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار «أَعْنِي » ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين{[53625]} ، وهذا نعت للمحسنين{[53626]} .
وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير{[53627]} الإثْم .
قوله : «إلاَّ اللَّمَمَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه استثناء{[53628]} منقطع ؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها . وهذا هو المشهور .
الثاني : أنه صفة ، و «إلاَّ » بمنزلة غير كقوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم{[53629]} .
الثالث : أنه متصل{[53630]} . وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر ، قالوا : إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا : معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي . وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللَّمم ما دون الشرك .
قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عزّ وجلّ : إلاَّ اللَّمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يُعَاودُه ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملكٌ كريمٌ .
وروى ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) {[53631]} في قوله : إلاَّ اللمم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا{[53632]} ؟
وأصل اللمم ما قلَّ وصَغُر ، ومنه اللَّمَمُ وهو المسُّ من الجُنُون وألمَّ بالمكان قَلَّ لَبْثُهُ فيه ، وأَلَمَّ بالطعام أي قل أكلُهُ منه .
وقال أبو العباس{[53633]} : أصل اللَّمَم أن يلمَّ بالشيء من غير أن يَرْكَبَهُ فقال : أَلَمَّ بكَذَا إذا قاربه ، ولم يخالطه . وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدُّنُوّ والقرب{[53634]} ، وقال جرير : ( رضي الله عنه وأرْضَاهُ ) {[53635]} :
بنَفْسِي مَنْ تَجَنِّيهِ عَزِيزٌ *** عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ{[53636]}
مَتَى تَأتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا{[53637]}
لِقَاء أَخْلاَءِ الصَّفَا لِمَامُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[53638]}
ومنه أيضاً لمّة الشعر لما دون الوَفْرة .
قال ابن الخطيب : الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة .
والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه ، فإنك إذا قلبتها وقلت : حَشَفَ كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد ، فَإن الحَشَفَ أرذلُ التَّمر{[53639]} ، وكذلك فَشَحَ{[53640]} يَدُلُّ عَلَى حَالَة رَديئةٍ ، يُقَال : فَشَحَت{[53641]} النَّاقَةُ إذَا وَقَفَتْ على هيئةٍ مخصوصةٍ للبَوْلِ فالفُحْش يلازمه القبح ، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم ، وقال في الكبائر من الإثم ؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله : كَبَائِر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش .
واختلفوا في الكبائر والفواحش ؟ فقيل : الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحاً وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حدًّا في الدنيا . وقيل : الكبائر : ما يُكَفَّرُ مستحلُّها . وقيل : الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة .
قال ابن الخطيب : كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه . وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح ، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية{[53642]} .
اختلفوا في معنى الآية ، فقال بعضهم : ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معاً فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيدِ بنِ ثابت وزيدِ بن أسلم .
وقيل : هو صغار الذنوب كالنَّظرة والغَمْزَة ، والقُبْلَة وما كان دون الزنا . وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروقٍ ، والشَّعْبي{[53643]} ورواية طاوس عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَزِنَا الْعَيْن النَّظَرُ ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ ، والنَّفْسُ تَتَمَنَّى وتَشتهِي والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ » وفي رواية : «والأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ{[53644]} ، واليَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ والرِّجْلُ زِناها الخُطَى » .
وقال الكلبي : اللمم على وجهين :
[ الأوّل ] : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ .
والوجه الآخر : هو الذنب العظيم يلمُّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه .
وقال سعيد بن المسيب : هو ما لَمَّ على القلب أي خَطَرَ . وقال الحُسَيْنُ بن الفضل : اللَّمَمُ النظرةُ عن غير تعمد فهو مغفورٌ ، فإن أعاد النظر فليس بلَمَم بل هُو ذنبٌ .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنه ) {[53645]} - لمن يفعل ذلك وتاب . وههنا تَمَّ الكلام{[53646]} .
قوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } في تعلق الآية وجوه :
أحدها : هو تصوير{[53647]} لما قال من قبل ، فإنه لو قال : هو أعلم بمن فعل{[53648]} كان القائل{[53649]} من الكفار يقول : نحن نعلم{[53650]} أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله ؟ قال : ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم ، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال .
الثاني : أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال ، وكتب على البعض أنه مُهْتَد .
الثالث : أنه تأكيد لبيان الجزاء ، لأنه لما قال : { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط ، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا{[53651]} أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم .
العامل في ( قوله ) {[53652]} : «إذْ » يحتمل أن يكون «اذْكُرْ » فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم . وقد تم الكلام ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب . وقد تقدم الكلام على قوله : { خلقكم من تراب } بأن كل أحد أصله من التراب ، فإنَّه يصير غذاء ، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة .
فإن قيل : لا بدّ من صرف قوله { إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } إلى آدم ، لأن قوله : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } عائد إلى غيره ، فإنه لم يكنْ جنيناً . وإن قلت بأن قوله تعالى : { إِذْ أَنشَأَكُمْ } عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة ؟
فالجواب : ليس كذلك ، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب ، فقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } خطاب مع من حَضَر ( وقت ) {[53653]} الإنزال وهم كانوا أجنَّةً ، وخلقوا من الأرض على ما قررناه .
قوله : «أجنة » جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره . و«جَنِينٌ ، وأَجِنَّة » كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ .
فإن قيل : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سَقْطاً ، فما فائدة قوله تعالى : { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ؟
فالجواب : أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطون الأمهات في غاية الظُّلْمَةِ ومن علم حالَ الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العِبَادِ{[53654]} .
قوله : { فَلاَ تُزكّذوا أَنفُسَكُمْ } قال ابن عباس - ( رضي{[53655]} الله عنهما ) - : لا تمدحوها . وقال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة { فَلاَ تُزكّوا أَنفُسَكُمْ } تُبَرِّئُوها عن الآثَام ولا تمدحوها بحسن أعمالها . وقال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتُنا وصيامُنا وحَجُّنا فأنزل الله هذه الآية . ثم قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } أيَ برَّ وأَطَاعَ وأَخْلَصَ الْعَمَلَ{[53656]} .
يحتمل أن يكون هذا خطاباً{[53657]} مع الكفار ، فإنهم قالوا : كيف يعلمنا{[53658]} الله ؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطاباً مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار ، ويحتمل أن يكون خطاباً مع المؤمنين وتقريره{[53659]} أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - قد علم كونك ومن تَبِعَك{[53660]} على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا{[53661]} نحن على الحق وأنتم على الضلال ؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله ، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى .
وعلى هذا قول من قال : «فأعرض » منسوخٌ أظهر ، وهو كقوله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] يعني الله أعلم بجملة الأمر .