بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم نعت المحسنين فقال : { الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش } قرأ حمزة والكسائي : { كَبِير الإثم } بلفظ الوحدان ، والمراد به : الجنس . والباقون : { يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم } بلفظ الجماعة . قال بعضهم : { كبائر الإثم } يعني : الشرك بالله ، { والفواحش } يعني : المعاصي . وقال بعضهم : { كبائر الإثم والفواحش } بمعنى واحد ، لأن كل فاحشة كبيرة ، وكل كبيرة فاحشة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الْكَبَائِرُ أَرْبَعَةٌ : الشِّرْكُ بِالله ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ الله ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله ، وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ الله » . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكبائر سبعة . فبلغ ذلك إلى عبد الله بن عباس ، فقال : هي إلى السبعين أقرب . ويقال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة . وقيل : كل ما أصر العبد عليه فهو كبيرة ، كما روي عن بعضهم أنه قال : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار .

قال : { إِلاَّ اللمم } وقال بعضهم : { اللمم } هو الصغائر من الذنوب . يعني : إذا اجتنبت الكبائر ، يغفر الله صغار الذنوب من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة ، وهو كقوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] قال مقاتل : نزلت في شأن نبهان التمار ، وذلك أن امرأة أتت لتشتري التمر ، فقال لها : ادخلي الحانوت ، فعانقها ، وقبلها ، فقالت المرأة : خنت أخاك ولم تصب حاجتك ، فندم ، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى مسروق عن ابن مسعود : قال زنى العينين النظر ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرجلين المشي ، وإنما يصدق ذلك الفرج ، أو يكذبه . فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمماً . وقال عكرمة : { اللمم } النظر ، وحديث النفس ، ونحو ذلك . وروى طاوس ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنَّ الله كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى . فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ نَظَرُ النَّاظِرِ ، وَزِنَى اللِّسَانِ النُّطْقُ ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى ، وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أوْ يُكَذِّبُهُ » . وقال عبد الله بن الزبير : { اللمم } القبلة ، واللمس باليد . وقال بعضهم : { اللمم } كل ذنب يتوب عنه ولا يصر عليه . وروى منصور ، عن مجاهد قال : في قوله : { إِلاَّ اللمم } هو الرجل يذنب الذنب ، ثم ينزع عنه . وروي عن أبي هريرة : قال : { اللمم } النكاح . وذكر ذلك لزيد بن أسلم فقال : صدق إنما اللمم لمم أهل الجاهلية . يقول الله تعالى في كتابه { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت وأمهاتكم الْلاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة وأمهات نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي في حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 23 ] . وروي عن الحسن أنه قال : { اللمم } هو أن يصيب النظرة من المرأة ، والشربة من الخمر . ثم ينزع عنه . وروي عن مجاهد أنه قال : الذي يلم بالذنب ، ثم يدعه . وقد قال الشاعر :

إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا *** وَأيّ عَبْدِ للَّه لا أَلَمَّا

وقال بعضهم : { إِلاَّ اللمم } ومعناه : ولا اللمم . ومعناه : أن تجتنبوا صغائر الذنوب ، وكبائرها ، كما قال القائل : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير ، والعيش . يعني : ولا اليعافير ، ولا العيس . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إيَّاكُمْ وَالمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ » . وسئل زيد بن ثابت عن قوله : { إِلاَّ اللمم } قال : حرم الله الفواحش ما ظهر منها ، وما بطن .

ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } يعني : واسع الفضل ، غافر الذنوب للذين يتوبون . ويقال : معناه رحمته واسعة على الذين يجتنبون الكبائر .

ثم قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } يعني : هو أعلم بحالكم منكم { إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } يعني : إذ هو خلقكم من الأرض . يعني : خلق آدم من تراب ، وأنتم من ذريته . { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } يعني : كنتم صغاراً { في بُطُونِ أمهاتكم } كان هو أعلم بحالكم منكم في ذلك كله ، { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ } يعني : لا تبرؤوا أنفسكم من الذنوب ، ولا تمدحوها .

ويقال : { وَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } يعني : لا يمدح بعضكم بعضاً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إذا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرابَ » . والمدح على ثلاثة أوجه : أوله أن يمدحه في وجهه ، فهو الذي نهي عنه . والثاني : أن يمدحه بغير حضرته ، ويعلم أنه يبلغه ، فهو أيضاً منهي عنه . والثالث : أن يمدحه في حال غيبته ، وهو لا يبالي بلغه أو لم يبلغه ، ويمدحه بما هو فيه ، فلا بأس بهذا . ويقال : { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } يعني : لا تطهروا أنفسكم من العيوب . وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَاحِلَةً » . { بِمَنِ اتقى } يعني : من يستحق المدح ، ومن لا يستحق المدح .