فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم وصف هؤلاء المحسنين فقال :

{ الذين } أي : هم الذين { يجتنبون كبائر الإثم } قرأ الكبائر على الجمع وكبير على الإفراد ، والكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار أو ما عين له حدا أو ذم فاعله ذما شديدا ، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل ، وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها :

{ والفواحش } جمع فاحشة ، وهي ما فحش من كبائر الذنوب ، كالزنا ونحوه ، وهو من عطف الخاص على العلم ، قال مقاتل : كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار ، والفواحش كل ذنب فيه الحد وقيل : الكبائر الشرك والفواحش الزنا ، وقد قدمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا وأكثر فائدة ، وقال ابن عباس : الكبائر ما سمى الله فيه النار ، والفواحش ما كان فيه حد الدنيا { إلا اللمم } أي إلا ما قل وصغر من الذنوب والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش ، قال السمين : وهذا هو المشهور ، ويجوز أن يكون متصلا عند من يفسر اللمم بغير الصغائر ، وأصل اللمم في اللغة ما قل وصغر ، ومنه ألم بالمكان قل لبثه فيه ؛ وألم بالطعام قل أكله منه .

قال المبرد : أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يرتكبه يقال : ألم بكذا إذا قاربه ، ولم يخالطه ، قال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب ، قال الزجاج : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ، ولا يقيم عليه ، يقال : ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه ويقال ما فعلته إلا لماما وإلماما ، أي : الحين بعد الحين ومنه إلمام الخيال قال في الصحاح ألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة .

وقد اختلف أقوال أهل العلم في تفسير هذا المذكور في الآية فالجمهور على أنه صغائر الذنوب ، وقيل : هو ما كان دون الزنا من القبلة والغمزة والنظرة وكالكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر والإشراف على بيوت الناس وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة والنياحة وشق الجيب في المصيبة ، والتبختر في المشي ، والجلوس بين الفساق إيناسا بهم ، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسى المسجد إذا كان يغلب تنجيسهم له واستعمال نجاسة في بدون أوثوب لغير حاجة ونحو ذلك ذكره الخطيب وغيره ، وقيل : هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة وابن عباس وبه قال مجاهد والحسن والزهري ومنه :

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما

واختار هذا القول الزجاج والنحاس وقيل : هو ذنوب الجاهلية فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام ، وبه قال زيد بن ثابت ، وزيد بن أسلم وقال نفطويه : هو أن يأتي بذنب لم يكن له به عادة ، قال والعرب تقول : ما تأتينا إلا إلماما أي في حين قال : ولا يكون أن يهم ولا يفعل لأن العرب لا تقول : ألم بنا إلا إذا فعل لا أذاهم ولم يفعل الراجح الأول .

أخرج البخاري ومسلم . " عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم " {[1547]} مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

وعن ابن مسعود في قوله إلا اللمم قال : زنا العين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم .

وعن أبي هريرة أنه سئل عن قوله : إلا اللمم قال هي النظرة ، والغمزة ، والقبلة ، والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنا . وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي . وعن ابن عباس فيه قال : إلا اللمم إلا ما قد سلف ، وعنه قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب منها ، وعن أبي هريرة قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ، ولا يعود ، فذلك الإلمام ، وعن ابن عباس أيضا قال : اللمم كل شيء بين الحدين ، حد الدنيا وحد الآخرة ، تكفره الصلاة ، وهو دون كل موجب ، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار ، وأخر عقوبته إلى الآخرة ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم دون الشرك .

{ إن ربك واسع المغفرة } حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، قال الكرخي : عقب به ما سبق لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ، ولئلا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى ، وقال غيره : الجملة تعليل لما تضمنه الاستثناء ، أي إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة فليس لخلوه عن كونه ذنبا يفتقر إلى مغفرة الله ، ويحتاج إلى رحمته ، بل لسعة المغفرة الربانية ، وقيل : إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه وأناب ، وعن عمر وابن عباس قالا لا كبيرة في الإسلام ، يعني مع التوبة ، ولا صغيرة مع الإصرار ، قلت : وفي كون الإصرار على الصغيرة كبيرة اختلاف بين أهل العلم ، قال النووي في المنهاج : وشرط العدالة اجتناب الكبائر ، والإصرار على صغيرة قال في تحفة المحتاج : قبل : عطف الإصرار من عطف الخاص على العام . وفيه نظر لأن الإصرار لا يصير الصغيرة كبيرة حقيقة : وإنما يلحقها في الحكم ولا ينافي هذا قول كثيرين كابن عباس ، ونسب للمحققين كالأشعري . وابن فورك ، والأسناد أبي إسحاق أ ه .

وفي الزواجر عن اقتراف الكبائر نقلا عن الرافعي : أما الصغائر فلا يشترط تجنبها بالكلية ، لكن الشرط أن لا يصر عليها ، فإن أصر كان الإصرار كارتكاب الكبيرة انتهى ، والحاصل أن المعتمد وفاقا لكثير من المتأخرين كالأذرعي والبلقيني والزركشي وابن العماد وغيرهم أنهم لا تضر المداومة على نوع من الصغائر . ولا على أنواع ، سواء كان مقيما على الصغيرة أو الصغائر أو مكثرا من فعل ذلك ، حيث غلب الطاعات المعاصي ، وإلا ضر ، ثم رأيت بن العماد قال ما نقله الإسنوي عن الرافعي : من أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ليس كذلك ، ولم يذكر الرافعي هذه العبارة ، قال البلقيني : المراد عدم غلبة الصغائر على الطاعة ، وفسر القاضيان الماوردي والطبري الإصرار في قوله تعالى : { ولم يصروا } بأن لم يعزموا على أن لا يعودوا إليه ، وقضيته حصول الإصرار بالعزم على العود ، بترك العزم على عدم العود ، ويوافقه قول ابن الصلاح : الإصرار التلبس بضد التوبة ، باستمرار العزم على المعاودة ، واستدامة الفعل بحيث يدخل به في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرة ، وليس لزمن ذلك وعدده حصر .

وقال ابن عبد السلام : الإصرار أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة بدينه ، إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ، وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر انتهى .

والصواب في هذا الباب ما ذكره القاضي محمد بن علي الشوكاني رحمه الله في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ، ونصه : قد قيل : إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة ، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به ، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية ، فإنه قال : لا صغيرة مع الإصرار ، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ ، وجعله حديثا ، ولا يصح ذلك ، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه ، والإصرار على الصغيرة صغيرة ، والإصرار على الكبيرة كبيرة انتهى .

ويفهم من ذلك أيضا أن الإصرار على الكبيرة ليس كفرا ، ثم التوبة عن الكبيرة وإن كانت واجبة عينا فورا بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، لكن قد يغفرها الله تعالى من غير توبة أيضا ، كما دلت عليه السنة المطهرة واختاره محققو أهل الحديث ، ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده فقال :

{ هو أعلم بكم } أي : بأحوالكم ، وتفاصيل أموركم { إذ } حين { أنشأكم من الأرض } أي : خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم ، وحين ما صوركم في الأرحام ، وقيل : المراد آدم فإنه خلقه من طين { وإذا أنتم أجنة } أي هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة ، وهي جمع جنين ، وهو الولد ما دام في البطن ، سمي ذلك لاجتنابه ، أي لاستتاره في بطن أمه ، ولهذا قال : { في بطون أمهاتكم } فلا يسمى من خرج عن البطن جنينا ، والجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها .

" عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا : هو صديق ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : كذبت يهود ، ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد ، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية " أخرجه الطبراني وغيره .

{ فلا تزكوا أنفسكم } أي لا تمدحوها ، ولا تثنوا عليها خيرا ، ولا تنسبوها إلى زكاء العمل ، وزيادة الخير والطاعات ، وحسن الأعمال ، واهضموها فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء ، وأقرب إلى الخشوع ، قال ابن عباس : لا تمدحوها ، وقال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تبرؤوها من الآثام ، ولا تمدحوها بحسن الأعمال ، وقيل لا تزكوها رياء ، وخيلاء ، ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك ، وأنا أزكى منك ، أو أتقى منك ، فإن العلم عند الله ، وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن الله يعلم عاقبة من هو على التقوى .

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود . " عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزكوا أنفسكم ، الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب " {[1548]} . وقال المحلي في الآية : وهذا النهي على سبيل الإعجاب ، وأما على سبيل الإعتراف بالنعمة فحسن ، ولذا قيل : المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر ، لقوله تعالى : { وأما بنعمة ربك فحدث }

{ هو أعلم بمن اتقى } مستأنفة مقررة للنهي ، أي فإنه يعلم المتقي منكم وغيره قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم ، فمن جاهد نفسه ، وخلصت منه التقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين ، فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتا ، وهو الذي ينتفع بها ويثاب عليها ، وقيل : نزلت في ناس كانوا يعملون أعمالا حسنة ؛ ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا


[1547]:رواه البخاري ومسلم.
[1548]:رواه أحمد مسلم.