مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

قوله تعالى { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة { يأت } بحذف الياء والباقون بإثبات الياء . قال صاحب «الكشاف » : وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ، ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } وقوله : { أو يأتي ربك } ويعضده قراءة من قرأ { وما يؤخره } بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل ، لأن قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود ، وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله : { أو يأتي ربك } أما ههنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل .

فإن قالوا : فما قولك في قوله تعالى : { وجاء ربك } .

قلنا : هناك تأويلات ، وأيضا فهو صريح ، فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال : المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم ، فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف .

المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف » : العامل في انتصاب الظرف هو قوله : { لا تكلم } أو إضمار اذكر .

أما قوله : { لا تكلم نفس إلا بإذنه } ففيه حذف ، والتقدير : لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى .

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } ومنها قوله تعالى : { وقفوهم إنهم مسئولون } ومنها قوله : { هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } .

والجواب من وجهين : الأول : أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة . الثاني : أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم .

أما قوله : { فمنهم شقي وسعيد } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف » : الضمير في قوله : { فمنهم } لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله : { لا تكلم نفس إلا بإذنه } يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله : { مجموع له الناس } .

المسألة الثانية : قوله : { فمنهم شقي وسعيد } يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين .

فإن قيل : أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين ؟

قلنا : المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين .

فإن قيل : قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه ؟

قلنا : لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضا لا يحاسبون ، لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم ، فلا فائدة في حسابهم .

فإن قيل : القاضي استدل بهذه الآية أيضا على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائدا أو يكون عقابه زائدا ، فأما من كان ثوابه مساويا لعقابه فإنه وإن كان جائزا في العقل ، إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود .

قلنا : الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب ، والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب ، وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث ، والدليل على ذلك : أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط ، وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمنا ولا كافرا مع أن القاضي أثبته ، فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه .

المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد ، وعلى بعضهم بأنه شقي ، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه ، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جاهلا وذلك محال . فثبت أن السعيد لا ينقلب شقيا وأن الشقي لا ينقلب سعيدا ، وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مرارا لا تحصى . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لما نزل قوله تعالى : { فمنهم شقي وسعيد } قلت يا رسول الله فعلى ماذا نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال : « على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ، ولكن كل ميسر لما خلق له » وقالت المعتزلة : نقل عن الحسن أنه قال : فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله .

قلنا : الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلا بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا .