اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

قوله : { يَوْمَ يَأْتِ } قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ " يَأتِي " {[18985]} بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً .

وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة : قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً .

وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها : ففي مصحف أبيّ إثباتُها ، وفي مصحق عثمان حذفها ، وإثباتها هو الوجه ؛ لأنَّها لامُ الكلمة ، وإنَّما حذفُوها في القوافي ، والفواصل ، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا : لا أدْرِ ، ولا أبَالِ .

وقال الزمخشريُّ " والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ " .

وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك : [ الرجز ]

كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا *** جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما{[18986]}

والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه :

أحدها : أنه " لا تكلَّمُ " والتقديرُ : لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم . وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره .

الثاني : أن ينتصب ب " اذْكُر " مقدراً .

والثالث : أن ينتصب بالانتهاءِ المحذوف في قوله : { إِلاَّ لأَجَلٍ } أي : ينتهي الأجل يوم يأتي .

والرابع : أنَّهُ منصوبٌ ب " لا تكلَّمُ " مقدَّراً ، ولا حاجة إليه .

والجملةُ من قوله : " لا تكلَّمُ " في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في " مَشْهُود " أو نعتاً له لأنه نكرة . والتقدير : لا تكلَُّم نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه ، قاله الحوفيُّ .

وقال ابن عطيَّة{[18987]} : " لا تكلَّمُ نفسٌ " يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في " يَأتِ " وهو العائدُ على قوله : { ذَلِكَ يَوْمٌ } ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره : لا تكلمُ نفسٌ فيه ، ويصحُّ أن يكون قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } صفةً لقوله : { يَوْمَ يَأْتِ } .

وفاعل " يَأتِ " فيه وجهان :

أظهرهما : أنَّهُ ضميرُ " يَوْم " المتقدِّم .

والثاني : أنَّه ضمير الله تعالى كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } [ البقرة : 210 ] وقوله : " أوْ يَأتِي ربُّكَ " .

والضميرُ في قوله : " فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على " النَّاس " في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا ، قال : لأن ذلك معلومٌ ، ولأنَّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } يدلُّ عليه " وكذا قال ابنُ عطية .

وقوله : { وَسَعِيدٌ } خبره محذوف : أي : ومنهم سعيدٌ ، كقوله : { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ هود : 100 ] .

فصل

هذه الآية توهم المناقضة لقوله { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] ولقوله { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35- 36 ] وقوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .

والجواب : قال بعضهم : إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ ، فهو محمولٌ على ذكر الأعذار الكاذبة الباطلة ، وحيث ورد الإذن في الكلام ، فهو محمول على الجوابات الصَّحيحة ؛ قال تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] وقيل : إنَّ ذلك اليوم يوم طويل ، وله مواقف ، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم ، وفي بعضها يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم .

وقيل : ورد المنع عن الكلام مطلقاً ، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد .

قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } قال الزمخشريُّ{[18988]} : الضميرُ في قوله : " مِنْهُمْ " لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا ؛ لأنَه مفهومٌ ، ولأنَّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } يدلُّ عليه ؛ ولأنه مذكورٌ في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } .

واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ .

وجوابه : أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم ؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون ، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال : إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً ؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم ، فلا فائدة في حسابهم .

واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضة القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه ، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه ، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل ، إلا أن هذا النص يدلُّ على أنَّهُ غيرُ موجودٍ .

وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث ؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر ، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته ، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه .

فصل

" روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - قال : خرجنا على جنازة ، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وبيده مخصرةٌ ، فجاء ، فجلس ، ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : " ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة ، أو النَّار ، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً ، أو سعيدةً " قال : فقال رجلٌ : أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل ؟ قال : " لا ، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة " ثم تلا : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى }{[18989]} [ الليل : 5- 10 ] .


[18985]:ينظر: الحجة 4/373 وأيضا قرأ بالياء في الوصل أبو جعفر وقرأ بها في الحالتين أيضا يعقوب ينظر: الإتحاف 2/135 والمحرر الوجيز 3/206 والبحر المحيط 5/261. والدر المصون 4/130.
[18986]:ينظر البيتان في الخصائص 3/90 والإنصاف 1/387 وأمالي الشجري 2/72 والمنصف 2/72 واللسان (ليق) والبحر المحيط 5/262 وروح المعاني 12/139 ومعاني الفراء 2/27 والأضداد لابن الأنباري 64 وإعراب النحاس 2/302 والقرطبي 9/45 والدر المصون 4/130.
[18987]:ينظر: المحرر الوجيز 3/207.
[18988]:ينظر: الكشاف 2/429.
[18989]:أخرجه البخاري 3/267 كتاب الجنائز: باب موعظة المحدث عند القبر (1362) وفي 8/578 كتاب التفسير: باب (فأما من أعطى واتقى) (4945)، وأطرافه في (4946) (4947) (4948) (4949).