السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ} (105)

{ يوم يأت } ذلك اليوم { لا تكلم } فيه حذف إحدى التاءين ، أي : لا تتكلم { نفس إلا بإذنه } تعالى . وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء بعد التاء من يأتي وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون ، وأمّا التاء من تكلم فشدّدها البزي في الوصل وخففها الباقون . فإن قيل : كيف يوفق بين قوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } [ النحل ، 111 ] وقوله تعالى : { هذا يوم ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } ؟ أجيب : بأنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفون عن الكلام ولا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم { فمنهم } ، أي : الناس { شقيّ و } منهم { سعيد } ، أي : فمنهم من سبقت له الشقاوة فوجبت له النار بمقتضى الوعيد ، ومنهم من سبقت له السعادة فوجبت له الجنة بموجب الوعد ، وعن عليَ رضي الله تعالى عنه قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ { فأمّا من أعطى واتقى 5 وصدّق بالحسنى 6 فسنيسره لليسرى } [ الليل ، 5 ، 6 ، 7 ] الآية » . وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم فيه ، والمخصرة كالسوط والعصا مما يمسكه الإنسان بيده ، والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد أو نحو ذلك حتى يؤثر فيه .