مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ قَالُواْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا ٱلۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجۡزِي ٱلۡمُتَصَدِّقِينَ} (88)

قوله تعالى { فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }

اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن ههنا محذوفا والتقدير : أن يعقوب لما قال لبنيه : { اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له : { هو القوى العزيز } .

فإن قيل : إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل ؟

قلنا : لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا : نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا . فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة ، وقالوا { يا أيها العزيز } ، والعزيز هو الملك القادر المنيع { مسنا وأهلنا الضر } وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم { وجئنا ببضاعة مزجاة } وفيه أبحاث :

البحث الأول : معنى الإزجاء في اللغة ، الدفع قليلا قليلا ، ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب . قال الله تعالى : { ألم تر أن الله يزجى سحابا } وزجيت فلانا بالقول دافعته ، وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة .

والبحث الثاني : إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعا والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن : البضاعة المزجاة القليلة ، وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام ، وقيل : خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة ، وقيل : متاع الأعراب الصوف والسمن . وقيل : الحبة الخضراء ، وقيل : الأقط ، وقيل : النعال والأدم ، وقيل : سويق المقل ، وقيل : صوف المعز ، وقيل : إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس .

البحث الثالث : في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة ؟ وفيه وجوه : الأول : قال الزجاج : هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل ، والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان ، وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام ، الثاني : قال أبو عبيد : إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة ، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها قال وهي من الأزجاء ، والأزجاء عند العرب السوق والدفع . الثالث : ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها . الرابع : قال الكلبي : مزجاة لغة العجم ، وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري : لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى القبط .

البحث الرابع : قرأ حمزة والكسائي مزجاة بالإمالة ، لأن أصله الياء ، والباقون بالنصب والتفخيم .

واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له : { فأوف لنا الكيل } والمراد أن يساهلهم إما بأن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الرديء مقام الجيد ، ثم قالوا : { وتصدق علينا } والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسع بالجيد ، واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلبا منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وعلى هذا التقدير ، كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة ، وأنكر الباقون ذلك . وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة ، لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغاثة به عمن سواه ، وروي عن الحسن ومجاهد : أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علي ، قالوا : لأن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب ، وإنما يقول : اللهم أعطني أو تفضل ، فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي ، وأجاز الليث أن يقال للسائل : متصدق وأباه الأكثرون . وروي أنهم لما قالوا : { مسنا وأهلنا الضر } وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك { قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } وقيل : دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر . أما بعد : فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه الله وجعلها بردا وسلاما عليه ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأما أنا فكان لي ابن ، وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية . ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه ، وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا : إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا ، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك . فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف .