مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ} (26)

قوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم } .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب .

المسألة الثانية : ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها ، وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث ، وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس ، وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق مع الأبوين ، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى . فقوله : { ولقد خلقنا الإنسان } إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام ، ونقل في «كتب الشيعة » عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وأقول : هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان ، فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس ، وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم ، فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع .

واعلم أن الجسم محدث ، فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقا عن عدم محض ، وأيضا دل قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } على أن آدم مخلوق من تراب ، ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين ، وهي قوله : { إني خالق بشرا من طين } وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون ، والأقرب أنه تعالى خلقه أولا من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار ، ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان ، بل هو قادر على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن ، لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه .

المسألة الثالثة : في الصلصال قولان : قيل الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ ، وإذا طبخ فهو فخار . قالوا : إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل ، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة . قال المفسرون : خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة ، فصار صلصالا كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به ، ولم يروا شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح . وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة فلذلك سماه الله تعالى صلصالا .

والقول الثاني : الصلصال والمنتن من قولهم صل اللحم وأصل إذا نتن وتغير ، وهذا القول عندي ضعيف ، لأنه تعالى قال : { من صلصال من حمإ مسنون } وكونه حمأ مسنونا يدل على النتن والتغير ، وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون فوجب أن يكون كونه صلصالا مغايرا لكونه حمأ مسنونا ، ولو كان كونه صلصالا عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه صلصالا ، وبين كونه حمأ مسنونا تفاوت ، وأما الحمأ فقال الليث ، الحمأة بوزن فعلة ، والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن . وقال أبو عبيدة والأكثرون حمأة بوزن كمأة وقوله : { مسنون } فيه أقوال : الأول : قال ابن السكيت سمعت أبا عمرو يقول في قوله : { مسنون } أي متغير ، قال أبو الهيثم يقال سن الماء فهو مسنون أي تغير . والدليل عليه قوله تعالى : { لم يتسنه } أي لم يتغير . الثاني : المسنون المحكوك وهو مأخوذ من سننت الحجر إذا حككته عليه ، والذي يخرج من بينهما يقال له السنن وسمي المسن مسنا لأن الحديد يسن عليه . والثالث : قال الزجاج : هذا اللفظ مأخوذ من أن موضوع على سنن الطريق لأنه متى كان كذلك فقد تغير . الرابع : قال أبو عبيدة : المسنون المصبوب ، والسن والصب يقال سن الماء على وجهه سنا . الخامس : قال سيبويه : المسنون المصور على صورة ومثال ، من سنة الوجه وهي صورته ، السادس : روي عن ابن عباس أنه قال : المسنون الطين الرطب ، وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة ، لأنه إذا كان رطبا يسيل وينبسط على الأرض ، فيكون مسنونا بمعنى أنه مصبوب .