أما قوله تعالى : { وأرسلنا الرياح لواقح } فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في وصف الرياح بأنها لواقح . أقوال :
القول الأول : قال ابن عباس : الرياح لواقح للشجر وللسحاب ، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم : لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت ، فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب . قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية : يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب ، ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه .
فإن قيل : كيف قال { لواقح } وهي ملقحة ؟
والجواب : ما ذهب إليه أبو عبيدة أن ( لواقح ) ههنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه :
لبيك يزيد يائس ذو ضراعة *** وأشعث مما طوحته الطوائح
أراد المطوحات ، وقرر ابن الأنباري ذلك فقال : تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا بدل على جواز ورود لاقح ، عبارة عن ملقح .
والوجه الثاني : في الجواب قال الزجاج : يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن معناها النسبة وهو كما يقال : درهم وازن ، أي ذو وزن ، ورامح وسائف ، أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي : هذا الجواب ليس بمغن ، لأنه كان يجب أن يصح اللاقح . بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء ، لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة ، ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب والله أعلم .
والوجه الثالث : في الجواب أن الريح في نفسها لافحة وتقريره بطريقين : الطريق الأول : أن الريح حاصلة للسحاب ، والدليل عليه قوله سبحانه : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا } أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة ، بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء .
والطريق الثاني : قال الزجاج : يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير ، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير ، وهذا كما تقول العرب : قد لقحت الحرب وقد نتجت ولدا أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا والله أعلم .
المسألة الثانية : الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركا لا بد له من سبب ، وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئا من لوازم ذاته ، وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال ، فلم يبق إلا أن يقال : إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار ، والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مرارا فأبطلناها . وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سببا لحدوث الرياح ، فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه .
وأما قوله : { وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين } ففيه مباحث : الأول : أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب ؟ وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء ؟ وثانيها : أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا : { فأسقيناكموه } قال الأزهري : تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته ، أي جعلته شربا له ، وجعلت له منها مسقى ، فإذا كانت السقيا لسقيه ، قالوا سقاه ، ولم يقولوا أسقاه . والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله : { نسقيكم مما في بطونه } فقرؤا باللغتين ، ولم يختلفوا في قوله : { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } وفي قوله : { والذي هو يطعمني ويسقين } قال أبو علي : سقيته حتى روي وأسقيته نهرا ، أي جعلته شربا له وقوله : { فأسقيناكموه } أي جعلناه سقيا لكم ، وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحابا :
أقول وصوبه مني بعيد *** يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى *** نميرا والقبائل من هلال
فقوله : سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يخصبون بها ، وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به . وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه ، وأما قول ذي الرمة :
وأسقيه حتى كاد مما أبنه *** تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء ، وأقول سقاه الله وقوله : { وما أنتم له بخازنين } يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.