مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

قوله تعالى { ويوم نبعث ف كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين }

اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي . واعلم أن الأمة عبارة عن القرن والجماعة .

إذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان : الأول : أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته . والثاني : أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم . أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الرسول بدليل قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } وثبت أيضا أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد . فحصل من هذا أن عصرا من الإعصار لا يخلو من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ ، وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل ، فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة . قال أبو بكر الأصم : المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشهد عليه وهي : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان . قال : والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم .

أجاب القاضي عنه من وجوه : الأول : أنه تعالى قال : { شهيدا عليهم } أي على الأمة فيجب أن يكون غيرهم . الثاني : أنه قال : { من كل أمة } فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمة ، وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد ، وذلك لأن كونهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه .

ثم قال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله أنه تعالى لما قال : { وجئنا بك شهيدا على هؤلاء } بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة .

المسألة الثانية : من الناس من قال : القرآن تبيان لكل شيء وذلك لأن العلوم إما دينية أو غير دينية ، أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلق لها بهذه الآية ، لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملا على علوم الدين فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه ، وأما علوم الدين فإما الأصول ، وإما الفروع ، أما علم الأصول فهو بتمامه موجود في القرآن وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب ، وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن ، وإذا كان كذلك كان القول بالقياس باطلا ، وكان القرآن وافيا ببيان كل الأحكام ، وأما الفقهاء فإنهم قالوا : القرآن إنما كان تبيانا لكل شيء ، لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة ، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصول كان ذلك الحكم ثابتا بالقرآن ، وهذه المسألة قد سبق ذكرها بالاستقصاء في سورة الأعراف ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال : تبيانا في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء ، وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين أنهم قالوا : لم يأت من المصادر على تفعال إلا حرفان تبيانا وتلقاء ، وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت : في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار ، وقلت : في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال .