مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

قوله تعالى { ذلك الكتاب } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لقائل أن يقول : المشار إليه ههنا حاضر ، و«ذلك » اسم مبهم يشار به إلى البعيد ، والجواب عنه من وجهين : الأول : لا نسلم أن المشار إليه حاضر ، وبيانه من وجوه أحدها : ما قاله الأصم : وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض ، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة ، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد ، فقوله { ذلك } إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة ، وقد يسمى بعض القرآن قرآنا ، قال الله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له } وقال حاكيا عن الجن { إنا سمعنا قرآنا عجبا } وقوله { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } وهم ما سمعوا إلا البعض ، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت ، وثانيها : أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي ، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه ، ويؤيده قوله { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } وهذا في سورة المزمل ، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث ، وثالثها : أنه تعالى خاطب بني إسرائيل ، لأن سورة البقرة مدنية ، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل ، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وينزل عليه كتابا فقال تعالى { ذلك الكتاب } أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ، ورابعها : أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله { وإنه في أم الكتاب لدينا } وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك ، فغير ممتنع أن يقول تعالى { ذلك الكتاب } ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ . وخامسها : أنه وقعت الإشارة بذلك إلى «الم » بعد ما سبق التكلم به وانقضى ، والمنقضي في حكم المتباعد ، وسادسها : أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد ، كما تقول لصاحبك -وقد أعطيته شيئا- احتفظ بذلك . وسابعها : أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها -والقرآن وإن كان حاضرا نظرا إلى صورته لكنه غائب نظرا إلى أسراره وحقائقه- فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب .

المقام الثاني : سلمنا أن المشار إليه حاضر ، لكن لا نسلم أن لفظة «ذلك » لا يشار بها إلا إلى البعيد ، بيانه أن ذلك ، وهذا حرفا إشارة ، وأصلهما «ذا » ؛ لأنه حرف للإشارة ، قال تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } ومعنى «ها » تنبيه ، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل : هذا ، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه ، وقد تدخل الكاف على «ذا » للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل : «ذلك » فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه ، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيد البعد في أصل الوضع ، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها ، فصارت كالدابة ، فإنها مختصة في العرف بالفرس ، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي ، لا على مقتضى الوضع العرفي ، وحينئذ لا يفيد البعد ؛ ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق } إلى قوله { وكل من الأخيار } ثم قال { هذا ذكر } وقال { وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب } وقال { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } وقال { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } وقال { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ثم قال { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } وقال { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } أي هكذا يحيي الله الموتى ، وقال { وما تلك بيمينك يا موسى } أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم .

المسألة الثانية : لقائل أن يقول : لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث ، وهو السورة ، الجواب : لا نسلم أن المشار إليه مؤنث ؛ لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم ، والأول باطل ، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث ، وأما الاسم فهو ( الم ) وهو ليس بمؤنث ، نعم ذلك المسمى له اسم آخر -وهو السورة- وهو مؤنث ، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو ( الم ) ، لا الذي هو مؤنث وهو السورة .

المسألة الثالثة : اعلم أن أسماء القرآن كثيرة : أحدها : الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل : فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس ، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال { كتاب أنزلناه إليك } والكتاب جاء في القرآن على وجوه : أحدها : الفرض { كتب عليكم القصاص } { كتب عليكم الصيام } { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } وثانيها : الحجة والبرهان { فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } أي برهانكم . وثالثها : الأجل { ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } أي أجل . ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد عبده { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم } وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة ، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته ، وسميت الكتيبة لاجتماعها ، فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات ، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم ، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق .

وثانيها : القرآن { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } { إنا جعلناه قرآنا عربيا } { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } . { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وللمفسرين فيه قولان : أحدهما : قول ابن عباس أن القرآن والقراءة واحد ، كالخسران والخسارة واحد ، والدليل عليه قوله { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أي تلاوته ، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته . الثاني : وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل : قرأت الماء في الحوض إذا جمعته ، وقال سفيان بن عيينة : سمي القرآن قرآنا لأن الحروف جمعت فصارت كلمات ، والكلمات جمعت فصارت آيات ، والآيات جمعت فصارت سورا ، والسور جمعت فصارت قرآنا ، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين . فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية .

وثالثها : الفرقان { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } . { وبينات من الهدى والفرقان } واختلفوا في تفسيره ، فقيل : سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقا أنزله في نيف وعشرين سنة ، ودليله قوله تعالى { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا } ونزلت سائر الكتب جملة واحدة ، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك } وقيل : سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والمجمل والمبين ، والمحكم والمؤول ، وقيل : الفرقان هو النجاة ، وهو قول عكرمة والسدي ، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة ، وعليه حمل المفسرون قوله { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون } .

ورابعها : الذكر ، والتذكرة ، والذكرى ، أما الذكر فقوله { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } { إنا نحن نزلنا الذكر } . { وإنه لذكر لك ولقومك } وفيه وجهان : أحدهما : أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره . والثاني : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به ، وأنه شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، وأما التذكرة فقوله { وإنه لتذكرة للمتقين } وأما الذكرى فقوله تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } .

وخامسها : التنزيل { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين } .

وسادسها : الحديث { الله نزل أحسن الحديث كتابا } سماه حديثا ؛ لأن وصوله إليك حديث ، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به ، فإن الله خاطب به المكلفين .

وسابعها : الموعظة { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم } وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى ، والآخذ جبريل ، والمستملي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف لا تقع به الموعظة .

وثامنها : الحكم ، والحكمة ، والحكيم ، والمحكم ، أما الحكم فقوله { وكذلك أنزلناه حكما عربيا } وأما الحكمة فقوله { حكمة بالغة } { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } وأما الحكيم فقوله { يس والقرآن الحكيم } وأما المحكم فقوله { كتاب أحكمت آياته } واختلفوا في معنى الحكمة ، فقال الخليل : هو مأخوذ من الإحكام والإلزام ، وقال المؤرخ : هو مأخوذ من حكمة اللجام ؛ لأنها تضبط الدابة ، والحكمة تمنع من السفه .

وتاسعها : الشفاء { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } وقوله { وشفاء لما في الصدور } وفيه وجهان : أحدهما : أنه شفاء من الأمراض . والثاني : أنه شفاء من مرض الكفر ، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض ، فقال { في قلوبهم مرض } وبالقرآن يزول كل شك عن القلب ، فصح وصفه بأنه شفاء .

وعاشرها : الهدى ، والهادي : أما الهدى فلقوله { هدى للمتقين } . { هدى للناس } . { وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } وأما الهادي { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وقالت الجن { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد } .

الحادي عشر : الصراط المستقيم : قال ابن عباس في تفسيره : إنه القرآن ، وقال : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } .

والثاني عشر : الحبل : { واعتصموا بحبل الله جميعا } في التفسير : إنه القرآن ، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا ، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك ، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عصمة فقال «إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به » لأنه يعصم الناس من المعاصي .

الثالث عشر : الرحمة { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات .

الرابع عشر : الروح { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } . { ينزل الملائكة بالروح من أمره } وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح ، وسمي جبريل بالروح { فأرسلنا إليها روحنا } وعيسى بالروح { ألقاها إلى مريم وروح منه } .

الخامس عشر : القصص { نحن نقص عليك أحسن القصص } سمي به لأنه يجب اتباعه { وقالت لأخته قصيه } أي اتبعي أثره ؛ أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين ، ومنه قوله تعالى { إن هذا لهو القصص الحق } .

السادس عشر : البيان ، والتبيان ، والمبين : أما البيان فقوله { هذا بيان للناس } والتبيان فهو قوله { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وأما المبين فقوله { تلك آيات الكتاب المبين } .

السابع عشر : البصائر { هذا بصائر من ربكم } أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيها بالبصر الذي يرى طريق الخلاص .

الثامن عشر : الفصل { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } واختلفوا فيه ، فقيل معناه القضاء ، لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوما إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار ، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة ، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار .

التاسع عشر : النجوم { فلا أقسم بمواقع النجوم } { والنجم إذا هوى } لأنه نزل نجما نجما .

العشرون : المثاني : { مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار .

الحادي والعشرون : النعمة : { وأما بنعمة ربك فحدث } قال ابن عباس يعني به القرآن .

الثاني والعشرون : البرهان { قد جاءكم برهان من ربكم } وكيف لا يكون برهانا وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله .

الثالث والعشرون : البشير والنذير ، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل { مبشرين ومنذرين } وقال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } وقال في صفة القرآن في حم السجدة { بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم } يعني مبشرا بالجنة لمن أطاع وبالنار منذرا لمن عصى ، ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن .

الرابع والعشرون : القيم { قيما لينذر بأسا شديدا } والدين أيضا قيم { ذلك الدين القيم } والله سبحانه هو القيوم { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وإنما سمي قيما لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة .

الخامس والعشرون : المهيمن { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } وهو مأخوذ من الأمين ، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في الدنيا والآخرة ، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } .

السادس والعشرون : الهادي { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وقال { يهدي إلى الرشد } والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر «النور الهادي » .

السابع والعشرون : النور { الله نور السماوات والأرض } وفي القرآن { واتبعوا النور الذي أنزل معه } يعني القرآن وسمي الرسول نورا { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } يعني محمد وسمي دينه نورا { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } وسمي بيانه نورا { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } وسمي التوراة نورا { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } وسمي الإنجيل نورا { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } وسمي الإيمان نورا { يسعى نورهم بين أيديهم } .

الثامن والعشرون : الحق : ورد في الأسماء «الباعث الشهيد الحق » والقرآن حق { وإنه لحق اليقين } فسماه الله حقا ؛ لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } أي ذاهب زائل .

التاسع والعشرون : العزيز { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } وفي صفة القرآن { وإنه لكتاب عزيز } والنبي عزيز { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه } والأمة عزيزة { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } فرب عزيز أنزل كتابا عزيزا على نبي عزيز لأمة عزيزة ، وللعزيز معنيان : أحدهما : القاهر ، والقرآن كذلك ؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته . والثاني : أن لا يوجد مثله .

الثلاثون : الكريم { إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون } واعلم أنه تعالى سمى سبعة أشياء بالكريم { ما غرك بربك الكريم } إذ لا جواد أجود منه ، والقرآن بالكريم ، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه ، وسمي موسى كريما { وجاءهم رسول كريم } وسمي ثواب الأعمال كريما { فبشره بمغفرة وأجر كريم } وسمي عرشه كريما { الله لا إله إلا هو رب العرش الكريم } لأنه منزل الرحمة ، وسمي جبريل كريما { إنه لقول رسول كريم } ومعناه أنه عزيز ، وسمي كتاب سليمان كريما { إني ألقي إلي كتاب كريم } فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة ، فإذا تمسكوا به نالوا ثوابا كريما .

الحادي والثلاثون : العظيم : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } واعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيما فقال { وهو العلي العظيم } وعرشه عظيما { وهو رب العرش العظيم } وكتابه عظيما { والقرآن العظيم } ويوم القيامة عظيما { ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين } والزلزلة عظيمة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } وخلق الرسول عظيما { وإنك لعلى خلق عظيم } والعلم عظيما { وكان فضل الله عليك عظيما } وكيد النساء عظيما { إن كيدكن عظيم } وسحر سحرة فرعون عظيما { وجاءوا بسحر عظيم } وسمي نفس الثواب عظيما { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } وسمي عقاب المنافقين عظيما { ولهم عذاب عظيم } .

الثاني والثلاثون : المبارك : { وهذا ذكر مبارك } وسمى الله تعالى به أشياء ، فسمى الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركا { في البقعة المباركة من الشجرة } وسمى شجرة الزيتون مباركة { يوقد من شجرة مباركة زيتونة } لكثرة منافعها ، وسمى عيسى مباركا { وجعلني مباركا } وسمى المطر مباركا { ونزلنا من السماء ماء مباركا } لما فيه من المنافع ، وسمى ليلة القدر مباركة { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة .

المسألة الرابعة : في بيان اتصال قوله { الم } بقوله { ذلك الكتاب } قال صاحب الكشاف : إن جعلت { الم } اسما للسورة ففي التأليف وجوه :

الأول : أن يكون { الم } مبتدأ و{ ذلك } مبتدأ ثانيا و{ الكتاب } خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتابا كما تقول : هو الرجل ، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال ، وأن يكون الكتاب صفة ، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون { الم } خبر مبتدأ محذوف أي هذا { الم } ويكون { ذلك الكتاب } خبرا ثانيا أو بدلا على أن الكتاب صفة ، ومعناه هو ذلك ، وأن تكون هذه { الم } جملة و { ذلك الكتاب } جملة أخرى وإن جعلت { الم } بمنزلة الصوت كان { ذلك } مبتدأ وخبره { الكتاب } أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف ، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله

{ الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه } وتأليف هذا ظاهر .

قوله تعالى { لا ريب فيه } فيه مسألتان :

المسألة الأولى : الريب قريب من الشك ، وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء ، ومنها قوله عليه السلام «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم «ريب الدهر » و«ريب الزمان » أي حوادثه قال الله تعالى { نتربص به ريب المنون } ويستعمل أيضا في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر :

قضينا من تهامة كل ريب *** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا

قلنا : هذان قد يرجعان إلى معنى الشك ، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن ، فقوله تعالى { لا ريب فيه } المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شبهة في صحته ، ولا في كونه من عند الله ، ولا في كونه معجزا . ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزا على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وهاهنا سؤالان : السؤال الأول : طعن بعض الملحدة فيه فقال : إن عنى أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه ، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه . الجواب : المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه ، والأمر كذلك ؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه . السؤال الثاني : لم قال ههنا { لا ريب فيه } وفي موضع آخر { لا فيها غول } ؟ الجواب : لأنهم يقدمون الأهم فالأهم ، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب ، ولو قلت : لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتابا آخر حصل الريب فيه لا هاهنا ، كما قصد في قوله { لا فيها غول } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا ، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث : من أين يدل قوله { لا ريب فيه } على نفي الريب بالكلية ؟ الجواب : قرأ أبو الشعثاء { لا ريب فيه } نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية ، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية ، وذلك يناقض نفي الماهية ، ولهذا السر كان قولنا «لا إله إلا الله » نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى . وأما قولنا «لا ريب فيه » بالرفع فهو نقيض لقولنا : «ريب فيه » وهو يفيد ثبوت فرد واحد ، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض .

المسألة الثانية : الوقف على { فيه } هو المشهور ، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لا ريب } ولابد للواقف من أن ينوي خبرا ، ونظيره قوله { قالوا لا ضير } وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ؛ والتقدير : { لا ريب فيه } فيه هدى . واعلم أن القراءة الأولى أولى ؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى ، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى ، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم .

قوله { هدى للمتقين } فيه مسائل :

المسألة الأولى : في حقيقة الهدى : الهدى عبارة عن الدلالة ، وقال صاحب الكشاف : الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية ، وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم . والذي يدل على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبرا في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء ، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محال ، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } أصبت الهدى مع عدم الاهتداء ، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال : هديته فلم يهتد ، وذلك يدل على قولنا ، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة : وقوع الضلالة في مقابلة الهدى ، قال تعالى { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } وقال { لعلى هدى أوفي ضلال مبين } . وثانيها : يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي ، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهديا مدحا لاحتمال أنه هدى فلم يهتدوا . ثالثها : أن اهتدى مطاوع هدى يقال : هديته فاهتدى ، كما يقال : كسرته فانكسر ، وقطعته فانقطع فكما أن الانكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع ، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى . والجواب عن الأول : أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة ، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال ، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع ، وعن الثاني : أن المنتفع بالهدى سمي مهديا ، وغير منتفع به لا يسمى مهديا ؛ ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم . وعن الثالث : أن ائتمار مطاوع الأمر يقال : أمرته فائتمر ، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمرا حصول الائتمار ، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضيا إلى الاهتداء ، على أنه معارض بقوله : هديته فلم يهتد ، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم ، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم .

المسألة الثانية : المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ، والوقاية فرط الصيانة ، إذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح ، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقيا في أمور الدنيا ، بل بأن يكون متقيا فيما يتصل بالدين ، وذلك بأن يكون آتيا بالعبادات محترزا عن المحظورات . واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى ؟ فقال بعضهم : يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد ، وقال آخرون : لا يدخل ، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم ؟ فروي عنه عليه السلام أنه قال : «لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس » وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه . واعلم أن التقوى هي الخشية ، قال في أول النساء { يا أيها الناس اتقوا ربكم } ومثله في أول الحج ، وفي الشعراء { إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون } يعني ألا تخشون الله ، وكذلك قال هود وصالح ، ولوط ، وشعيب لقومهم ، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه { اعبدوا الله واتقوه } يعني اخشوه ، وكذا قوله { اتقوا الله حق تقاته } { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن ، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة ، والتوبة أخرى ، والطاعة ثالثة ، وترك المعصية رابعا ، والإخلاص خامسا ، أما الإيمان فقوله تعالى { وألزمهم كلمة التقوى } أي التوحيد { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } وفي الشعراء { قوم فرعون ألا يتقون } أي ألا يؤمنون وأما التوبة فقوله : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } أي تابوا ، وأما الطاعة فقوله في النحل { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } وفيه أيضا { أفغير الله تتقون } وفي المؤمنين { وأنا ربكم فاتقون } وأما ترك المعصية فقوله { وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله } أي فلا تعصوه ، وأما الإخلاص فقوله في الحج { فإنها من تقوى القلوب } أي من إخلاص القلوب ، فكذا قوله { وإياي فاتقون } واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } وقال { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وعن ابن عباس قال عليه السلام : «من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده » وقال علي بن أبي طالب : التقوى ترك الإصرار عل المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة . قال الحسن : التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله ، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله . وقال إبراهيم بن أدهم : التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيبا . ولا الملائكة في أفعالك عيبا ولا ملك العرش في سرك عيبا وقال الواقدي : التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق ، ويقال : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك ، ويقال : المتقي من سلك سبيل المصطفى ، ونبذ الدنيا وراء القفا ، وكلف نفسه الإخلاص والوفاء ، واجتنب الحرام والجفا ، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى { هدى للمتقين } كفاه ، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } ثم قال ههنا في القرآن : إنه هدى للمتقين ، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس ، فمن لا يكون متقيا كأنه ليس بإنسان .

المسألة الثالثة : في السؤالات : السؤال الأول : كون الشيء هدى ودليلا لا يختلف بحسب شخص دون شخص ، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط ؟ وأيضا فالمتقي مهتدي ، والمهتدي لا يهتدي ثانيا والقرآن لا يكون هدى للمتقين . الجواب : القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع ، وعلى دينه وصدق رسوله ، فهو أيضا دلالة للكافرين . إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال { إنما أنت منذر من يخشاها } وقال { إنما تنذر من اتبع الذكر } وقد كان عليه السلام منذرا لكل الناس ، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره . وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه ، لأن كون القرآن موصلا إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين . السؤال الثاني : كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير ؛ ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه ، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن ، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج ، لا تحتج عليهم بالقرآن ، فإنه خصم ذو وجهين ، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه ؛ ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به ، ونرى القرآن مملوءا من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر ، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد ، فكيف يكون هدى ؟

الجواب : أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين -وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع- صار كله هدى . السؤال الثالث : كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه ، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته ، وفي معرفة النبوة ، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب ، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق ؟

الجواب : ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء ، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء ، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع ، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم ، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة ، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم .

السؤال الرابع : الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره ، والقرآن ليس كذلك ، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالا كثيرة متعارضة ، وما يكون كذلك لا يكون مبينا في نفسه فضلا عن أن يكون مبينا لغيره ، فكيف يكون هدى ؟ قلنا : من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة ، ولا يرجح واحدا منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال ، وأما نحن فقد رجحنا واحدا على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال .

المسألة الرابعة : قال صاحب الكشاف : محل { هدى للمتقين } الرفع ؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع { لا ريب فيه } { لذلك } أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبرا عنه ، ويجوز أن ينصب على الحال ، والعامل فيه الإشارة ، أو الظرف ، والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحا ، وأن يقال : إن قوله { الم } جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها . و{ ذلك الكتاب } جملة ثانية ، و { لا ريب فيه } ثالثة و{ هدى للمتقين } رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض ، والثانية متحدة بالأولى وهلم جرا إلى الثالثة ، والرابعة .

بيانه : أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله ، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة ، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر -الذي هو هدى- موضع الوصف الذي هو هاد ، وإيراده منكرا .