مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (29)

قوله تعالى { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير } .

اعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهرا وباطنا واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقا للظاهر في وقت التقية ، وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة ، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سببا لحصول تلك الموالاة في الباطن ، فلا جرم بين تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر ، فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه ، وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : هذه الآية جملة شرطية فقوله { إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه } شرط وقوله { يعلمه الله } جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه ، فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى .

والجواب : أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ، ثم أن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم ، وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام .

السؤال الثاني : محل البواعث والضمائر هو القلب ، فلم قال : { إن تخفوا ما في صدوركم } ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم ؟ .

الجواب : لأن القلب في الصدر ، فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال : { يوسوس في صدور الناس } [ الناس : 5 ] وقال : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] .

السؤال الثالث : إن كانت هذه الآية وعيدا على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق .

الجواب : ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [ البقرة : 284 ] .

ثم قال تعالى : { ويعلم ما في السماوات وما في الأرض } .

واعلم أنه رفع على الاستئناف ، وهو كقوله { قاتلوهم يعذبهم الله } [ التوبة : 14 ] جزم الأفاعيل ، ثم قال : { ويتوب الله } فرفع ، ومثله قوله { فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل } [ الشورى : 24 ] رفعا ، وفي قوله { ويعلم ما في السماوات وما في الأرض } غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفي عليه شيء فيهما فكيف يخفي عليه الضمير .

ثم قال تعالى : { والله على كل شيء قدير } إتماما للتحذير ، وذلك لأنه لما بين أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالما بما في قلبه ، وكان عالما بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب ، ثم بين أنه قادر على جميع المقدورات ، فكان لا محالة قادرا على إيصال حق كل أحد إليه ، فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب .