مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗاۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (30)

قوله تعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } .

اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب ، ومن تمام الكلام الذي تقدم .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا في العامل في قوله { يوم } وجوها الأول : قال ابن الأنباري : اليوم متعلق بالمصير والتقدير : وإلى الله المصير يوم تجد الثاني : العامل فيه قوله { ويحذركم الله نفسه } في الآية السابقة ، كأنه قال : ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم الثالث : العامل فيه قوله { والله على كل شيء قدير } أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وخص هذا اليوم بالذكر ، وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلا له لعظم شأنه كقوله { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] الرابع : أن العامل فيه قوله { تود } والمعنى : تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس : يجوز أن يكون منتصبا بمضمر ، والتقدير : واذكر يوم تجد كل نفس .

المسألة الثانية : اعلم أن العمل لا يبقى ، ولا يمكن وجدانه يوم القيامة ، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجهين الأول : أنه يجد صحائف الأعمال ، وهو قوله تعالى : { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } [ الجاثية : 29 ] وقال : { فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه } [ المجادلة : 6 ] الثاني : أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى : { محضرا } يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن جزاء العمل يكون محضرا ، كقوله { ووجدوا ما عملوا حاضرا } [ الكهف : 49 ] وعلى كلا الوجهين ، فالترغيب والترهيب حاصلان .

أما قوله : { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال الواحدي : الأظهر أن يجعل { ما } ههنا بمنزلة الذي ، ويكون { عملت } صلة لها ، ويكون معطوفا على { ما } الأول ، ولا يجوز أن تكون { ما } شرطية ، وإلا كان يلزم أن ينصب { تود } أو يخفضه ، ولم يقرأه أحد إلا بالرفع ، فكان هذا دليلا على أن { ما } ههنا بمعنى الذي .

فإن قيل : فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ، ودت .

قلنا : لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع ، لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم ، وأكثر موافقة للقراءة المشهورة .

المسألة الثانية : الواو في قوله { وما عملت من سوء } فيه قولان الأول : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : الواو واو العطف ، والتقدير : تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء ، وأما قوله { تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } ففيه وجهان الأول : أنه صفة للسوء ، والتقدير : وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني : أن يكون حالا ، والتقدير : يوم تجد ما عملت من سوء محضرا حال ما تود بعده عنها .

والقول الثاني : أن الواو للاستئناف ، وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلا على القطع بوعيد المذنبين ، وموضع الكرم واللطف هذا ، وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضرا وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد .

المسألة الثالثة : الأمد ، الغاية التي ينتهي إليها ، ونظيره قوله تعالى : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } [ الزخرف : 38 ] .

واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم ، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان ، إذ المقصود تمني بعده ، ثم قال : { ويحذركم الله نفسه } وهو لتأكيد الوعيد . ثم قال : { والله رءوف بالعباد } وفيه وجوه الأول : أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه ، وعرفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه ، قال الحسن : ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني : أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث : أنه لما قال : { ويحذركم الله نفسه } وهو للوعيد أتبعه بقوله { والله رءوف بالعباد } وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته ، غالب على وعيده وسخطه والرابع : وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص ، قال تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } [ الفرقان : 63 ] وقال تعالى : { عينا يشرب بها عباد الله } [ الإنسان : 6 ] فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال : { والله رءوف بالعباد } أي كما هو منتقم من الفساق ، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين .