اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِن تُخۡفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمۡ أَوۡ تُبۡدُوهُ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (29)

لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء - واستثنى عنه التَّقِيَّة في الظاهر - أتبعه بالوعيد على أن يصير الباطنُ موافقاً للظاهر - في وقت التقية - ؛ لئلا يجرَّه ذلك الظاهرُ إلى الموالاةِ في الباطن ، فبيَّن - تعالى - أن علمه بالظاهر كعِلْمِه بالباطن .

فإن قيل : قوله : { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } شرط ، وقوله : { يَعْلَمْهُ اللَّهُ } جزاء ، ولا شك أن الجزاء مترتِّب على الشرط ، متأخِّرٌ عنه ، فهذا يقتضي حدوثَ علمِ اللهِ تعالى .

فالجوابُ : أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ، وهذا التجدُّد إنما يعرض في النِّسَب ، والإضافات ، والتعلُّقات ، لا في حقيقة العلم .

فإن قيل : إن محل البواعثِ والضمائر هو القلب ، فلم قال : { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ } ولم يَقُلْ : { مَا فِي قلُوبِكُمْ } ؟

فالجوابُ : لأن القلبَ في الصدر ، فجاز إقامة الصدر مقام القلب ، كما قال : { يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } [ الناس : 5 ] .

فصل

قوله : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ } قلوبكم ، من مودة الكفار وموالاتهم { أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } .

وقال الكلبيُّ : إن تُسرُّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب ، أو تُظْهِرُوه ، لحَرْبِهِ وقتاله يعلْمه الله ، ويجازكم عليه .

قوله : " وَيَعْلَمُ " مستأنف ، وليس منسوقاً على جواب الشرطِ ؛ لأن علمه بما في السماوات وما في الأرض غير متوقِّف على شرط ، فلذلك جِيء مستأنفاً ، وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } من باب ذكر العام بعد الخاص . { مَا فِي صُدُورِكُمْ } ، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور ، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء ، وجعل محلهما النفس ، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة ؛ تفنُّناً في البلاغة ، وذكر ذلك للتحذير ؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ ؟

قوله : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهو تمام التحذير ؛ لأنه إذا كان قادراً على جميع المقدورات كان - لا محالة - قادراً على إيصال حق كل أحد إليه ، فيكون هذا تمام الوعدِ ، والوعيد ، والترغيب ، والترهيب .