ثم قال تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شىء محيطا } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها ، وفيه وجوه : الأول : أن يكون المعنى أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلا لاحتياجه إليه في أمر من الأمور كما تكون خلة الآدميين ، وكيف يعقل ذلك وله ملك السماوات والأرض ، وما كان كذلك ، فكيف يعقل أن يكون محتاجا إلى البشر الضعيف ، وإنما اتخذه خليلا بمحض الفضل والإحسان والكرم ، ولأنه لما كان مخلصا في العبودية لا جرم خصه الله بهذا التشريف ، والحاصل أن كونه خليلا يوهم الجنسية فهو سبحانه أزال وهم المجانسة والمشاكلة بهذا الكلام . والثاني : أنه تعالى ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من الأمر والنهي والوعد والوعيد ، فبين هاهنا أنه إله المحدثات وموجد الكائنات والممكنات ، ومن كان كذلك كان ملكا مطاعا فوجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وأن ينقاد لأمره ونهيه . الثالث : أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ولا يمكن الوفاء بهما إلا عند حصول أمرين : أحدهما : القدرة التامة المتعلقة بجميع الكائنات والممكنات . والثاني : العلم التام المتعلق بجميع الجزئيات والكليات حتى لا يشتبه عليه المطيع والعاصي والمحسن والمسيء ، فدل على كمال قدرته بقوله { ولله ما في السموات وما في الأرض } وعلى كمال علمه بقوله { وكان الله بكل شىء محيطا } الرابع : أنه سبحانه لما وصف إبراهيم بأنه خليله بين أنه مع هذه الخلة عبد له ، وذلك لأنه له ما في السماوات وما في الأرض ، ويجري هذا مجرى قوله { إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا } ومجرى قوله { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } يعني أن الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة والقوة في صفة العلم والحكمة لما لم يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يمكن أن يستنكف المسيح مع ضعف بشريته عن عبودية الله ! كذا هاهنا ، يعني إذا كان كل من في السماوات والأرض ملكه في تسخيره ونفاذ إلهيته فكيف يعقل أن يقال : إن اتخاذ الله إبراهيم عليه السلام خليلا يخرجه عن عبودية الله ، وهذه الوجوه كلها حسنة متناسبة .
المسألة الثانية : إنما قال { ما في السموات وما في الأرض } ولم يقل ( من ) لأنه ذهب مذهب الجنس ، والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بما .
المسألة الثالثة : قوله : { وكان الله بكل شيء محيطا } فيه وجهان : أحدهما : المراد منه الإحاطة في العلم . والثاني : المراد منه الإحاطة بالقدرة ، كما في قوله تعالى { وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها } قال القائلون بهذا القول : وليس لقائل أن يقول لما دل قوله { ولله ما في السموات وما في الأرض } على كمال القدرة ، فلو حملنا قوله { وكان الله بكل شيء محيطا } على كمال القدرة لزم التكرار ، وذلك لأنا نقول : إن قوله { لله ما في السموات وما في الأرض } لا يفيد ظاهره إلا كونه تعالى قادرا مالكا لكل ما في السماوات وما في الأرض ، ولا يفيد كونه قادرا على ما يكون خارجا عنهما ومغايرا لهما ، فلما قال { وكان الله بكل شيء محيطا } دل على كونه قادرا على ما لا نهاية له من المقدورات خارجا عن هذه السماوات والأرض ، على أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الكائنات والممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه ، فهذا تقرير هذا القول ، إلا أن القول الأول أحسن لما بينا أن الإلهية والوفاء بالوعد والوعيد إنما يحصل ويكمل بمجموع القدرة والعلم ، فلابد من ذكرهما معا ، وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم لما ثبت في علم الأصول أن العلم بالله هو العلم بكونه قادرا ، ثم بعد العلم بكونه قادرا يعلم كونه عالما لما أن الفعل بحدوثه يدل على القدرة ، وبما فيه من الأحكام والإتقان يدل على العلم ، ولا شك أن الأول مقدم على الثاني .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.