مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۭ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (114)

قوله تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما }

واعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : النجوى في اللغة سر بين اثنين ، يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ، ويقال : نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته ، والنجوى قد تكون مصدرا بمنزلة المناجاة ، قال تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون ، قال تعالى { وإذ هم نجوى } .

المسألة الثانية : قوله { إلا من أمر بصدقة } ذكر النحويون في محل { من } وجوها ، وتلك الوجود مبنية على معنى النجوى في هذه الآية ، فإن جعلنا معنى النجوى هاهنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب ؛ لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصبا كقوله { إلا أذى } ويجوز أن يكون رفعا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله :

إلا اليعافير وإلا العيس *** . . .

وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال : التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف ، وعلى هذا التقدير يكون { من } في محل النجوى لأنه أقيم مقامه ، ويجوز فيه وجهان : إحدهما : الخفض بدل من نجواهم ، كما تقول : ما مررت بأحد إلا زيد . والثاني : النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيدا ، وهذا استثناء الجنس من الجنس ، وأما إن جعلنا النجوى اسما للقوم المتناجين كان منصوبا على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس ؛ ويجوز أن يكون { من } في محل الخفض من وجهين : أحدهما : أن تجلعه تبعا لكثير ، على معنى : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة ، كقولك : لا خير في القوم إلا نفر منهم . والثاني : أن تجعله تبعا للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد ، إن شئت أتبعت زيدا الجماعة ، وإن شئت أتبعته القوم ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة ، والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ، ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع : الأمر بالصدقة ، والأمر بالمعروف ، والإصلاح بين الناس ، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة ، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، أما إيصال الخير فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله { إلا من أمر بصدقة } وإما أن يكون من الخيرات الروحانية ، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله { أو معروف } وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله { أو إصلاح بين الناس } فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية ، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام : «كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله » وقيل لسفيان الثوري : ما أشد هذا الحديث ! فقال سفيان : ألم تسمع الله يقول { لا خير في كثير من نجواهم } فهو هذا بعينه ، أما سمعت الله يقول { والعصر إن الإنسان لفي خسر } فهو هذا بعينه .

ثم قال تعالى : { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى بها لوجه الله ولطلب مرضاته ، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد ؛ وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية ، وتصفية الداعية عن الإلتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقوله { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقوله عليه الصلاة والسلام : «إنما الأعمال بالنيات » وهاهنا سؤالان :

السؤال الأول : لم انتصب { ابتغاء مرضات الله } ؟

والجواب : لأنه مفعول له ، والمعنى لأنه لابتغاء مرضاة الله .

السؤال الثاني : كيف قال { إلا من أمر } ثم قال { ومن يفعل ذلك } .

والجواب : أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ، ويجوز أن يراد : ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضا فعل من الأفعال .