مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا} (123)

ثم قوله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الأمنية أفعولة من المنية ، وتمام الكلام في هذا اللفظ مذكور في قوله تعالى { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } .

المسألة الثانية : { ليس } فعل ، فلابد من اسم يكون هو مسندا إليه ، وفيه وجوه : الأول : ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله { سندخلهم جنات تجرى } الآية ، بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، أي ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح . الثاني : ليس وضع الدين على أمانيكم . الثالث : ليس الثواب والعقاب بأمانيكم ، والوجه الأول أولى لأن إسناد { ليس } إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور .

المسألة الثالثة : الخطاب في قوله { ليس بأمانيكم } خطاب مع من ؟ فيه قولان : الأول : أنه خطاب مع عبدة الأوثان ، وأمانيهم أن لا يكون هناك حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب ، وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله ، وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } فلا يعذبنا ، وقولهم { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } .

القول الثاني : أنه خطاب مع المسلمين ، وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر ، وليس الأمر كذلك ، فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا ناسخ الكتب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

ثم قال تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات ، وليس لقائل أن يقول : هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن العام بعد التخصيص حجة ، والثاني : أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية ، فهاهنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه .

أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى : { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } والذي نزيده في هذه الآية وجوه الأول : لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام ، والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر ، أما القرآن فهو قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا } سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : كيف الصلاح بعد هذه الآية ؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ، أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون .

وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قرأ هذه الآية فقال : أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال : «يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه » وعن أبي هريرة رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : «أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه » .

الوجه الثاني في الجواب : هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم القيامة ، لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته ، ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول .

أما القرآن فقوله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } .

وأما الخبر : فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة ، وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فكيف الجزاء ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت آحاده أعشاره » .

وأما المعقول : فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة . والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل ، فيبقى حينئذ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة .

الوجه الثالث في الجواب : أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار ، والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة } فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات ، فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية ، وقولهم : خرج عن كونه مؤمنا فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن ، مثل قوله { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } إلى قوله { فإن بغت إحداهما على الأخرى } سمي الباغي حال كونه باغيا مؤمنا ، وقال : { يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمنا ، وقال : { يا أيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله } سماه مؤمنا حال ما أمره بالتوبة ، فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإذا كان مؤمنا كان قوله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات } حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة ، فوجب أن يكون قوله { من يعمل سوءا يجز به } مخصوصا بأهل الكفر .

الوجه الرابع في الجواب : هب أن النص يعم المؤمن والكافر ، ولكن قوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } أخص منه والخاص مقدم على العام ، ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم ، وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان .

المسألة الثانية : دلت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله { من يعمل سوءا } يتناول جميع المحرمات ، فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله { يجز به } يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا .

قلنا : إنه لابد وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة ، وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون تنعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم هاهنا أكمل ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا ، فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة .

المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : دلت الآية على أن العبد فاعل ، ودلت أيضا على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء ، وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد ، وذلك من وجهين : أحدهما : أنه لما كان عملا للعبد امتنع كونه عملا لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد بقادرين ، والثاني : أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء البتة وذلك باطل ، لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله ، واعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب .

ثم قال تعالى : { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } .

قالت المعتزلة : دلت الآية على نفي الشفاعة ، والجواب من وجهين : الأول : أنا قلنا أن هذه الآية في حق الكفار . والثاني : أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى ، وإذا كان كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى .