مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في اتصال الآية بما قبلها وجوه : الأول : أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله ، وبالجملة فكأنه قيل : إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله ، وأن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت صلى الله عليه وسلم لا لنفسك ، ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف ، فكانت هذه الآية تأكيدا لما تقدم من التكاليف . الثاني : أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية ، وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة ، فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف ، أو السبع الذي غاية أمره إيذاء حيوان . الثالث : أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم ، وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سبيل الله ، وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل . ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة ، ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط ، شاهدين لله على كل أحد ، بل وعلى أنفسهم ، فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف .

المسألة الثانية : القوام مبالغة من قائم ، والقسط العدل ، فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل ، وقوله { شهداء لله } أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم ، وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران : الأول : أن يقر على نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجبا إلزام الحق ، والثاني : أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم وأقاربكم ، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره .

المسألة الثالثة : في نصب { شهداء } ثلاثة أوجه : الأول : على الحال من { قوامين } . والثاني : أنه خبر على أن { كونوا } لها خبران ، والثالث : أن تكون صفة لقوامين .

المسألة الرابعة : إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه : الأول : أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف ، فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن ، وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة ، وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولا ، ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانيا ، تنبيها على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير . الثاني : أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير ، وهو الذي عليه الحق ، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير ، الثالث : أن القيام بالقسط فعل ، والشهادة قول ، والفعل أقوى من القول .

فإن قيل : إنه تعالى قال : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط } فقدم الشهادة على القيام بالقسط ، وهاهنا قدم القيام بالقسط ، فما الفرق ؟

قلنا : شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقا للمخلوقات ، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات ، فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط ، أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعيا للعدل ومباينا للجور ، ومعلوم أنه ما لم يكن الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة ، فثبت أن الواجب في قوله { شهد الله } أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط . والواجب هاهنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط ، ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد ، الإلهي والله أعلم .

ثم قال تعالى : { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } أي إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير ، فالله أولى بأمورهما ومصالحهما ، وكان من حق الكلام أن يقال : فالله أولى به ، لأن قوله { إن يكن غنيا أو فقيرا } في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ ، أي الله أولى بالفقير والغني ، وفي قراءة أبي فالله أولى بهم ، وهو راجع إلى قوله { أو الوالدين والأقربين } وقرأ عبد الله : إن يكن غني أو فقير ، على ( كان ) التامة .

ثم قال تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل ، وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر ، فتقدير الآية : فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا .

ثم قال تعالى : { وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور { وإن تلووا } بواوين ، وقرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } وأما قراءة تلووا ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون بمعنى الدفع والإعراض من قولهم : لواه حقه إذا مطله ودفعه . الثاني : أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم : لوى الشيء إذا فتله ، ومنه يقال : التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيها بالشيء المنفتل ، وأما { تلوا } ففيه وجهان : الأول : أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به ، والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيرا فيجازى المحسن المقبل بإحسانه والمسيء المعرض بإساءته ، والحاصل : إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها ، والثاني : قال الفراء والزجاج : يجوز أن يقال : { تلوا } أصله تلووا ثم قلبت الواو همزة ، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار { تلووا } وهذا أضعف الوجهين ، وأما قوله { فإن الله كان بما تعلمون خبيرا } فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين .