مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا} (80)

ثم إنه تعالى أكد هذا الذي قلناه فقال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا }

والمعنى أن من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله ، وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله ، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ، فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق ، فإن أحدا من الخلق لا يقدر على إرشاده .

واعلم أن من أنار الله قلبه بنور الهداية قطع بأن الأمر كما ذكرنا ، فإنك ترى الدليل الواحد تعرضه على شخصين في مجلس واحد ، ثم إن أحدهما يزداد إيمانا على إيمان عند سماعه ، والآخر يزداد كفرا على كفر عند سماعه ، ولو أن المحب لذلك الكلام أراد أن يخرج عن قلبه حب ذلك الكلام واعتقاد صحته لم يقدر عليه ، ولو أن المبغض له أراد أن يخرج عن قلبه بغض ذلك الكلام واعتقاد فساده لم يقدر ، ثم بعد أيام ربما انقلب المحب مبغضا والمبغض محبا ، فمن تأمل للبرهان القاطع الذي ذكرناه في أنه لا بد من إسناد جميع الممكنات إلى واجب الوجود ، ثم اعتبر من نفسه الاستقراء الذي ذكرناه ، ثم لم يقطع بأن الكل بقضاء الله وقدره ، فليجعل واقعته من أدل الدلائل على أنه لا تحصل الهداية إلا بخلق الله من جهة أن مع العلم بمثل هذا الدليل ، ومع العلم بمثل هذا الاستقراء لما لم يحصل في قلبه هذا الاعتقاد ، عرف أنه ليس ذلك إلا بأن الله صده عنه ومنعه منه . بقي في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله ، لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة الله وأيضا وجب أن يكون معصوما في جميع أفعاله ، لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله : { واتبعوه } والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير ، فكان الآتي بمثل ذلك الفعل مطيعا لله في قوله : { فاتبعوه } فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وفي جميع أفعاله ، إلا ما خصه الدليل ، طاعة لله وانقياد لحكم الله .

المسألة الثانية : قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة في باب فرض الطاعة للرسول : أن قوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } يدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن ، ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن ، فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول ، وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله ، هذا معنى كلام الشافعي .

المسألة الثالثة : قوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } يدل على أنه لا طاعة إلا لله البتة ، وذلك لأن طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو فيه رسول لا تكون إلا طاعة لله ، فكانت الآية دالة على أنه لا طاعة لأحد إلا لله . قال مقاتل في هذه الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله » فقال المنافقون : لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو أن ينهي أن نعبد غير الله ، ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية .

واعلم أنا بينا كيفية دلالة الآية على أنه لا طاعة البتة للرسول ، وإنما الطاعة لله . أما قوله : { ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا } ففيه قولان : أحدهما : أن المراد من التولي هو التولي بالقلب ، يعني يا محمد حكمك على الظواهر ، أما البواطن فلا تتعرض لها . والثاني : أن المراد به التولي بالظاهر ، ثم ههنا ففي قوله : { فما أرسلناك عليهم حفيظا } قولان : الأول : معناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولي وأن تحزن ، فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي ، والسبب في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم ، فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له عليه الصلاة والسلام عن ذلك الحزن . الثاني : أن المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك التولي وهو كقوله : { لا إكراه فى الدين } ثم نسخ هذا بعده بآية الجهاد .