مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ فَأَخَذَتۡهُمۡ صَٰعِقَةُ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (17)

ولما ذكر الله قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال : { وأما ثمود } قال صاحب «الكشاف » قرئ { ثمود } بالرفع والنصب منونا وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرئ بضم الثاء وقوله { فهديناهم } أي دللناهم على طريق الخير والشر { فاستحبوا العمى على الهدى } أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد .

واعلم أن صاحب «الكشاف » ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى : { هدى للمتقين } أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية ، وهذه الآية تبطل قوله ، لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل ، فثبت أن قيد كونه مفضيا إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى .

وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جوابا شافيا فتركناه ، قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل ، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله { وأما ثمود فهديناهم } يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله { فاستحبوا العمى على الهدى } يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد ، وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل ، على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد ، وبيانه من وجهين : ( الأول ) أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى ، لأنهم أحبوا تحصيله ، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده ، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل ، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب ، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب ( الثاني ) أنه تعالى قال : { فاستحبوا العمى على الهدى } ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلا ، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلما لا يرغب فيه ، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقا بجهل آخر ، فإن كان ذلك الجهل الثاني باختياره أيضا لزم التسلسل وهو محال ، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب ، ولما وصف الله كفرهم قال : { فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } و { صاعقة العذاب } أي داهية العذاب و{ الهون } الهوان ، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه { بما كانوا يكسبون } يريد من شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة ، وشرع صاحب «الكشاف » هاهنا في سفاهة عظيمة . والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى سعيا حسنا فيما يتعلق بالألفاظ ، إلا أن المسكين كان بعيدا من المعاني .