قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم } .
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بهذا الوعد الشريف ، وهذا ترتيب لطيف مدار كل القرآن عليه ، وقد ذكرنا مرارا أن الكمالات على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية وأشرف المراتب النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية ، وذكرنا أن الكمالات النفسانية محصورة في نوعين العلم اليقيني والعمل الصالح ، فإن أهل التحقيق قالوا كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله وإليه الإشارة بقوله { إن الذين قالوا ربنا الله } ورأس الأعمال الصالحة ورئيسها أن يكون الإنسان مستقيما في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط ، كما قال : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } وقال أيضا : { اهدنا الصراط المستقيم } وإليه الإشارة في هذه الآية بقوله { ثم استقاموا } وسمعت أن القارئ قرأ في مجلس العبادي هذه الآية ، فقال العبادي : والقيامة في القيامة ، بقدر الاستقامة ، إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } ليس المراد منه القول باللسان فقط لأن ذلك لا يفيد الاستقامة ، فلما ذكر عقيب ذلك القول الاستقامة علمنا أن ذلك القول كان مقرونا باليقين التام والمعرفة الحقيقية ، إذ عرفت هذا فنقول في الاستقامة قولان ( أحدهما ) أن المراد منه الاستقامة في الدين والتوحيد والمعرفة ( الثاني ) أن المراد منه الاستقامة في الأعمال الصالحة أما على القول الأول ففيه عبارات : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ثم استقاموا أي لم يتلفتوا إلى إله غيره ، قال ابن عباس في بعض الروايات هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وقع في أنواع شديدة من البلاء والمحنة ولم يتغير البتة عن دينه ، فكان هو الذي قال : { ربنا الله } وبقي مستقيما عليه لم يتغير بسبب من الأسباب ، وأقول يمكن فيه وجوه أخرى ، وذلك أن من أقر بأن لهذا العالم إلها بقيت له مقامات أخرى ( فأولها ) أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل ، ولا يتوغل في جانب الإثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه ، بل يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل ، وأيضا يجب أن يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين الجبر والقدر ، وكذا في الرجاء والقنوط يجب أن يكون على الخط المستقيم ، فهذا هو المراد من قوله { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } وأما على القول الثاني وهو أن نحمل الاستقامة على الإتيان بالأعمال الصالحة ، فهذا قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، قالوا وهذا أولى حتى يكون قوله { إن الذين قالوا ربنا الله } متناولا للقول والاعتقاد ويكون قوله { ثم استقاموا } متناولا للأعمال الصالحة .
ثم قال : { تتنزل عليهم الملائكة } قيل عند الموت وقيل في مواقف ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث إلى القيامة { ألا تخافوا } أن بمعنى أي أو بمخففة من الثقيلة وأصله بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن واعلم أن الغاية القصوى في رعاية المصالح دفع المضار وجلب المنافع ، ومعلوم أن دفع المضرة أولى بالرعاية من جلب المصلحة ، والمضرة إما أن تكون حاصلة في المستقبل أو في الحال أو في الماضي ، وهاهنا دقيقة عقلية وهي أن المستقبل مقدم على الحاضر والحاضر مقدم على الماضي ، فإن الشيء الذي لم يوجد ويتوقع حدوثه يكون مستقبلا ، فإذا وجد يصير حاضرا ، فإذا عدم وفني بعد ذلك يصير ماضيا ، وأيضا المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولا والماضي في كل حالة أبعد حصولا ، ولهذا قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه أقرب من غد *** ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية ، وأيضا الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل ، والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجودا في الماضي ، وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم ، إذا عرفت هذا ، فنقول : إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة ، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا ، وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية ، ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى : { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع ، فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانيا بحصولها كان الإخبار الثاني إخبارا ولا يكون بشارة ، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخبارا ولا يكون بشارة ، فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة ، قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمنا تقيا كان له الجنة ، أما من لم يسمع البتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخبارا بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة .
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعا من الأهوال ومن الفزع الشديد ، بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله { ألا تخافوا ولا تحزنوا } يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.