مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا} (2)

المسألة الثانية : قوله { ليغفر لك الله } ينبئ عن كون الفتح سببا للمغفرة ، والفتح لا يصلح سببا للمغفرة ، فما الجواب عنه ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه : ( الأول ) ما قيل إن الفتح لم يجعله سببا للمغفرة وحدها ، بل هو سبب لاجتماع الأمور المذكورة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة والهداية والنصرة ، كأنه تعالى قال : ليغفر لك الله ويتم نعمته ويهديك وينصرك ، ولا شك أن الاجتماع لم يثبت إلا بالفتح ، فإن النعمة به تمت ، والنصرة بعده قد عمت ( الثاني ) هو أن فتح مكة كان سببا لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان ، وتطهير بيته صار سببا لتطهير عبده ( الثالث ) هو أن بالفتح يحصل الحج ، ثم بالحج تحصل المغفرة ، ألا ترى إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال في الحج : «اللهم اجعله حجا مبرورا ، وسعيا مشكورا ، وذنبا مغفورا » ( الرابع ) المراد منه التعريف تقديره { إنا فتحنا لك } ليعرف أنك مغفور ، معصوم ، فإن الناس كانوا علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله المسخوط عليه ، وإنما يدخلها ويأخذها حبيب الله المغفور له .

المسألة الثالثة : لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ذنب ، فماذا يغفر له ؟ قلنا الجواب عنه قد تقدم مرارا من وجوه ( أحدها ) المراد ذنب المؤمنين ( ثانيها ) المراد ترك الأفضل ( ثالثها ) الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد ، وهو يصونهم عن العجب ( رابعها ) المراد العصمة ، وقد بينا وجهه في سورة القتال .

المسألة الرابعة : ما معنى قوله { وما تأخر } ؟ نقول فيه وجوه ( أحدها ) أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة ( ثانيها ) ما تقدم على الفتح ، وما تأخر عن الفتح ( ثالثها ) العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه ، مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم ( رابعها ) من قبل النبوة ومن بعدها ، وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة ، وفيه وجوه أخر ساقطة ، منها قول بعضهم : ما تقدم من أمر مارية ، وما تأخر من أمر زينب ، وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام ، وقوله تعالى : { ويتم نعمته عليك } يحتمل وجوها : ( أحدها ) هو أن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج ، وهو آخر التكاليف ، والتكاليف نعم ( ثانيها ) يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك ، فإن يوم الفتح لم يبق للنبي عليه الصلاة والسلام عدو ذو اعتبار ، فإن بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح ( ثالثها ) ويتم نعمته عليك في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح ، وفي الآخرة بقول شفاعتك في الذنوب ولو كانت في غاية القبح ، وقوله تعالى : { ويهديك صراطا مستقيما } يحتمل وجوها أظهرها : يديمك على الصراط المستقيم حتى لا يبقى من يلتفت إلى قوله من المضلين ، أو ممن يقدر على الإكراه على الكفر ، وهذا يوافق قوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام دينا } حيث أهلكت المجادلين فيه ، وحملتهم على الإيمان ( وثانيها ) أن يقال جعل الفتح سببا للهداية إلى الصراط المستقيم ، لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بالفوائد العاجلة بالفتح والآجلة بالوعد ، والجهاد سلوك سبيل الله ، ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهد ( وثالثها ) ما ذكرنا أن المراد التعريف ، أي ليعرف أنك على صراط مستقيم ، من حيث إن الفتح لا يكون إلا على يد من يكون على صراط الله بدليل حكاية الفيل .