مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (119)

ثم قال تعالى : { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أجمعوا على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة ، والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة ، والدليل على أن المراد ما ذكرنا : أن صدق الكفار في القيامة لا ينفعهم ، ألا ترى أن إبليس قال : { إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم } فلم ينفعه هذا الصدق ، وهذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } .

المسألة الثانية : قرأ جمهور القراء { يوم } بالرفع ، وقرأ نافع بالنصب ، واختاره أبو عبيدة . فمن قرأ بالرفع ، قال الزجاج : التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين ، وأما النصب ففيه وجوه : الأول : على أنه ظرف لقال والتقدير : قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع . الثاني : أن يكون التقدير : هذا الصدق واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم ، ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخبارا عن الأحداث بهذا التأويل كقولك : القتال يوم السبت ، والحج يوم عرفة ، أي واقع في ذلك اليوم ، والثالث : قال الفراء : { يوم } أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ . قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة

على حين عاتبت المشيب على الصبا *** . . .

بنى ( حين ) لإضافته إلى المبني ، وهو الفعل الماضي ، وكذلك قوله { يوم لا تملك } بني لإضافته إلى ( لا ) وهي مبنية ، أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل ، والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم .

ثم قال تعالى : { لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } .

إعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة ، شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب ، وحقيقة الثواب : أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم . فقوله { لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار } إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم ، وقوله { خالدين فيها أبدا } إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة ، فإنه أينما ذكر الثواب قال : { خالدين فيها أبدا } وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الإيمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد ، وأما قوله تعالى : { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } فهو إشارة إلى التعظيم . هذا ظاهر قول المتكلمين ، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى ، فتحت قوله { رضي الله عنهم ورضوا عنه } أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها ، وقوله { ذلك الفوزالعظيم } الجمهور على أن قوله { ذلك } عائد إلى جملة ما تقدم من قوله { لهم جنات تجري } إلى قوله { ورضوا عنه } وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصا بقوله { رضي الله عنهم ورضوا عنه } فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود ، وكيف والجنة مرغوب الشهوة ، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما ، وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري ، ولكن كل ميسر لما خلق له .