مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيۡكُمۡۖ فَمَن يَكۡفُرۡ بَعۡدُ مِنكُمۡ فَإِنِّيٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (115)

ثم قال تعالى { قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وعاصم ونافع { منزلها } بالتشديد ، والباقون بالتخفيف وهما لغتان نزل وأنزل وقيل : بالتشديد أي منزلها مرة بعد أخرى ، وبالتخفيف مرة واحدة .

المسألة الثانية : قوله { فمن يكفر بعد منكم } أي بعد إنزال المائدة { فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } قال ابن عباس : يعني مسخهم خنازير وقيل : قردة وقيل : جنسا من العذاب لا يعذب به غيرهم . قال الزجاج : ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجلا لهم في الدنيا ، ويجوز أن يكون مؤخرا إلى الآخرة ، وقوله { من العالمين } يعني عالمي زمانهم .

المسألة الثالثة : قيل : إنهم سألوا عيسى عليه السلام هذا السؤال عند نزولهم في مفازة على غير ماء ولا طعام ولذلك قالا نريد أن نأكل منها .

المسألة الرابعة : اختلفوا في أن عيسى عليه السلام هل سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان قد أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل والله أعلم .

المسألة الخامسة : اختلفوا في أنه هل نزلت المائدة . فقال الحسن ومجاهد : ما نزلت واحتجوا عليه بوجهين : الأول : أن القوم لما سمعوا قوله { أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } استغفروا وقالوا لا نريدها . الثاني : أنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة . وقال الجمهور الأعظم من المفسرين : أنها نزلت لأنه تعالى قال { إني منزلها عليكم } وهذا وعد بالإنزال جزما من غير تعليق على شرط ، فوجب حصول هذا النزول .

والجواب عن الأول : أن قوله { فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه } شرط وجزاء لا تعلق له بقوله { إني منزلها عليكم } .

والجواب عن الثاني : أن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم .

المسألة السادسة : روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا ، ثم قال : اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عليه السلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، وقال لهم ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها . فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك ، فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل . وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما . وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون : يا روح الله : أمن طعام الدنيا أمن طعام الآخرة ؟ فقال : ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزيدكم من فضله ، فقال الحواريون : يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ، ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ثم عصوا من بعدها ، فمسخوا قردة وخنازير .