غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

1

ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم . يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال : مر قومك يزنوا به . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض . أنزل الحديد والنار والماء والملح . وعن الحسن : إنزالها تهيئتها كقوله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر :6 ] وقال قطرب : هو من النزل يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً منهم من قال : هو من باب " علفتها تبناً وماء بارداً " . وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه . أحدها أن مدار التكليف على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي . والثاني لا يتم بالحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولاسيما إذا كان معجزاً . وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالقوة النظرية الروحانية ، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية ، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق . وثانيها المعاملات إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم ، إما أحباب ويفتقر في نظام أمور تمدنهم إلى الميزان ، وإما أعداء فيدفعون بالسيف . وثالثها السابقون يعاملون بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات ، والمقتصدون ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان ، والظالمون ينتصفون من غير إنصاف فلا بدّ لهم من السيوف الزواجر . واربعها أن الإنسان في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة المقربين لا يسكن إلا بكتاب الله { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد :28 ] أو هو في مقام الطريقة وهو النفس اللوامة . وأصحاب اليمين لا بد لهم من الميزان في معرفة الأخلاق المتوسطة غير المائلة إلى طريق الإفراط والتفريط ، أو هو في مقام الشريعة والنفس الأمارة لا تنزجر إلا بحديد المجاهدة وسيف الرياضة . وخامسها السالك إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فانتبه بميزان الكتاب ، أو صاحب الطلب والاستدلال فانتبه بميزان الدليل والحجة ، وإن كان صاحب العناد واللجاج فلا بد له من الحديد . وسادسها الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوم بالميزان ، وميزان العدل والأحوال يعتبر بحديد الرياضة . أو نقول : الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوّم بالميزان ، والمنحرفون من أحد الموضوعين يولون بالسيف . وسابعها الكتاب للعلماء . والميزان للعوام والسيف للملوك . قال أهل التجارب : في منافع الحديد ما من صناعة إلا والحديد آلة فيها . أو ما يعمل بالحديد بيانه أن أصول الصناعة أربعة : الزراعة والحياكة والبناء والإمارة . أما الزراعة فتحتاج إلى الحديد في كراية الأرض وإصلاحها وحفرها وتنقية آبارها . ثم الحبوب لا بد من طحنها وخبزها وكل منهما يحتاج إلى شيء من حديد وأكل الفواكه واللحوم وغيرها يفتقر أيضاً في التغيير والتقطيع إلى الحديد وأما الحياكة فتحتاج إلى آلات الحراثة وإلى آلات الغزل وإلى أدوات الحياكة والخياطة ، وأما البناء فلا يكمل الحال فيه إلا بآلات حديدية وأما الإمارة فلا تتم إلا بأسباب الحرب وآلات السياسة فظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ولا يقوم الذهب ولا الجواهر في أكثرها مقام الحديد فلو لم يوجد الذهب والجواهر في الدنيا لم يختل شيء من المهمات ولو لم يوجد الحديد لاختلت المصالح فعند هذا يظهر أثر عناية الله بحال عبيده ، فإن كل شيء تكون حاجاتهم إليه أكثر يكون وجوده أسهل . قال بعضهم :

سبحان من خص الفلز بعزه *** والناس مستغنون عن أجناسه

وأذل أنفاس الهواء وكل ذي *** نفس فمحتاج إلى أنفاسه

نظيره الحاجة إلى الطعام ثم إلى الهواء ، فالطعام قلما يوجد إلا بالثمن والماء قد يباع في بعض الأمكنة والزمان والهواء لا يباع أصلاً لأن الحاجة إلى النفس أمس . قال بعض المحققين هاهنا إن العلم أبلغ ما يحتاج الإنسان إليه إذ به قوام روحه وصلاح معاده فلا جرم لا يقع في عرضة البيع وكثيراً ما يعطى الأجر على تعلمه قوله { وليعلم الله } ظاهره أنه معطوف على المعنى التقدير : وأنزلنا الحديد لأجل المنافع الدنيوية ولأجل المصالح الدينية وهو ظهور معلوم الله وتعلق علمه بما سيقع من نصرة دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وغيرها . ويجوز أن يكون المعطوف عليه محذوفاً بدليل ما تقدمه أي وأنزلنا الحديد ليقوم الناس بالقسط خوفاً من أن يجعل وليعلم الله ومعنى { بالغيب } غائباً عنهم . قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ، وفيه إشارة إلى أن الجهاد المعتبر هو الذي يوجد عن إخلاص القلب خالياً من النفاق والرياء وفي قوله { إن الله قوي عزيز } رمز إلى أنه تعالى قادر على إهلاك أعداء الدين وإعلاء كلمته بدون واسطة الجهاد ، ولكنه كلفهم ذلك ليتوسلوا به إلى نيل درجة الصديقين والشهداء .

/خ29