ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسله إلى الناس ، ليهدوهم إلى طريق الحق ، وأن الناس منهم من اتبع الرسل ، ومنهم من أعرض عنهم ، ومنهم من ابتدع أموراً من عند نفسه لم يرعها حق رعايتها . . . . فقال - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا . . . } .
المراد بالبينات فى قوله - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } الحجج والدلائل التى تشهد لهم بأنهم رسل من عند الله - تعالى - وتدخل فيها المعجزات دخولا أوليا .
والمراد بالكتاب : جنس الكتب . وتشمل التوراة والإنجيل وغيرهما .
والميزان : الآلة المعروفة بين الناس لاستعمالها فى المكاييل وغيرها . . . والمراد بها العدل بين الناس فى أحكامهم ومعاملاتهم .
وشاع إطلاق الميزان على العدل ، باستعارة لفظ الميزان على العدل ، على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمراد بإنزاله ، تبليغه ونشره بين الناس .
أى : بالله لقد أرسلنا رسلنا ، وأيدناهم بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم كبتنا السماوية ، بأن بلغناهم إياها عن طريق وحينا ، وأنزلنا معهم العدل بأن أرشدناهم إلى طرقه ، وإلى إعطاء كل ذى حق حقه .
قال ابن كثير : يقول الله - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } أى : بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } وهو النقل الصدق { والميزان } وهو العدل أو وهوالحق الذى تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة .
وأكد - سبحانه - هذا الإرسال ، للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ولبيان أنه واحد من هؤلاء الرسل الكرام ، وأن رسالته إنما هى امتداد لرسالتهم . . . وقوله - تعالى - : { لِيَقُومَ الناس بالقسط } علة لما قبله . أى : أرسلنا الرسل . وأنزلنا الكتاب وشرعنا العدل ، ليقوم الناس بنشر ما يؤدى إلى صلاح بالهم ، واستقامة أحوالهم ، عن طريق التزامهم بالحق والقسط فى كل أمورهم .
قال الآلوسى : " والقيام بالقسط " أى : بالعدل ، يشمل التسوية فى أمور التعامل باستعمال الميزان ، وفى أمور المعاد باحتذاء الكتاب ، وهو - أى : القسط - لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغى الاتصاف به ، معاشا ومعادا .
وقوله - تعالى - : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } معطوف على ما قبله .
والمراد بإنزال الحديد : خلقه وإيجاده . وتهيئته للناس ، والإنعام به عليهم ، كما فى قوله - سبحانه - { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } والمراد بالبأس الشديد : القوة الشديدة التى تؤدى إلى القتل وإلحاق الضرر بمن توجه إليه ، أى : لقد أرسلنا رسلنا بالأدلة الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم ما يرشد الناس إلى صلاحهم .
وأوجدنا الحديد ، وأنعمنا به عليكم ، ليكون قوة شديدة لكم فى الدفاع عن أنفسكم ، وفى تأديب أعدائكم ، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم فى مصالحكم وفى شئون حياتكم .
فمن الحديد تكون السيوف وآلات الحرب . . ومنه - ومعه غيره - تتكون القصور الفارهة ، والمبانى العالية الواسعة ، والمصانع النافعة . . . وآلات الزراعة والتجارة .
فالآية الكريمة تلفت أنظار الناس إلى سنة من سنن الله - تعالى - قد أرسل الرسل وزودهم بالهدايات السماوية التى تهدى الناس إلى ما يسعدهم .
. . وزودهم - أيضا - بالقوة المادية التى تحمى الحق الذى جاءوا به ونرد كيد الكائدين له فى نحورهم ، وترهب كل من يحاول الاعتداء عليه ، كما قال - تعالى - : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : ما ملخصه : أى : وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق ، وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ولهذا أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاث عشرة سنة ، تنزل عليه السور المكية ، لبيان أن دين الله حق .
فلما قامت الحجة على من خالفه ، شرع الله القتال بعد الهجرة ، حماية للحق ، وأمرهم بضرب رقاب من عاند الحق وكذبه .
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بعث بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له . وجعل رزقى تحت ظل رمحى ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " .
ولهذا قال - تعالى - : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعنى السلاح كالسيف والحراب .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أى : فى معايشهم كالفأس والقدوم . . . وغير ذلك .
هذا ، ومن المفسرين الذين فصلوا القول فى منافع الحديد ، وفى بيان لماذا خصه الله - تعالى - بالذكر : الإمام الفخر الرازى فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة ، جعله الله سهل الوجدان ، كثير الوجود . والذهب لما كانت حاجة الناس إليه قليلة ، جعله الله - تعالى - عزيز الوجود .
وبهذا تتجلى رحمة الله على عباده ، فإن كل شىء كانت حاجتهم إليه أكثر جعل الحصول عليه أيسر .
فالهواء - وهو أعظم ما يحتاج الإنسان إليه - جعل الله تعالى - الحصول عليه سهلا ميسورا . . . فعلمنا من ذلك أن كل شىء كانت الحاجة إليه أكثر ، كان وجدانه أسهل .
ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله - تعالى - أشد من الحاجة إلى كل شىء ، فنرجوه من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا ، كما قال الشاعر :
سبحان من خص العزيز بعزة . . . والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذى . . . نفس ، فمحتاج إلى أنفاسه
وقوله : - سبحانه - : { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب . . } معطوف على محذوف يدل عليه السياق .
والمراد بقوله : { وَلِيَعْلَمَ } أى : وليظهر علمه - تعالى - للناس ، حتى يشاهدوا آثاره .
أى : وأنزل - سبحانه - الحديد لكى يستعملوه فى الوجوه التى شرعها الله وليظهر - سبحانه - أثر علمه حتى يشاهد الناس ، من الذى سيتبع الحق منهم ، فينصر دين الله - تعالى - وينصر رسله ، ويستعمل نعمه فيما خلقت له حالة كونه لا يرى الله - تعالى - بعينيه ، وإنما يتبع أمره ، ويؤمن بوحدانيته ووجوده وعلمه وقدرته .
. . عن طريق ما أوحاه - سبحانه - إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - .
فقوله : { بالغيب } حال من فاعل { يَنصُرُهُ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أى : أن الله - تعالى - هو المتصف بالقوة التى ليس بعدها قوة وبالعزة التى لا تقاربها عزة .
وختمت الآية بهذا الختام ، لأنه هو المناسب لإرسال الرسل ، ولإنزال الكتب والحديد الذى فيه بأس شديد ومنافع للناس .
فكان هذا الختام تعليل لما قبله . أى : لأن الله - تعالى - قوى فى أخذه عزيز فى انتقامه فعل ما فعل من إرسال الرسل ، ومن إنزال الحديد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.