مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سببا لزيادة المحبة والمودة ، وقوله : { تفسحوا في المجالس } توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : افسح عني ، أي تنح ، ولا تتضاموا ، يقال : بلدة فسيحة ، ومفازة فسيحة ، ولك فيه فسحة ، أي سعة .

المسألة الثانية : قرأ الحسن وداود بن أبي هند : تفاسحوا ، قال ابن جني : هذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل : تفسحوا ، فمعناه ليكن هناك تفسح ، وأما التفاسح فتفاعل ، والمراد هاهنا المفاعلة ، فإنها تكون لما فوق الواحد كالمقاسمة والمكايلة ، وقرئ : { في المجلس } قال الواحدي : والوجه التوحيد لأن المراد مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو واحد ، ووجه الجمع أن يجعل لكل جالس مجلس على حدة ، أي موضع جلوس .

المسألة الثالثة : ذكروا في الآية أقوالا : ( الأول ) أن المراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتضامون فيه تنافسا على القرب منه ، وحرصا على استماع كلامه ، وعلى هذا القول ذكروا في سبب النزول وجوها ( الأول ) قال مقاتل بن حيان : كان عليه السلام يوم الجمعة في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول ، فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه ، وشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرفت الكراهية في وجوههم ، وطعن المنافقون في ذلك ، وقالوا : والله ما عدل على هؤلاء ، إن قوما أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة ( الثاني ) روي عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن الشماس ، وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من الرسول عليه الصلاة والسلام للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب ، ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينه كلام ، ووصف للرسول محبة القرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلانا لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية ، وأمر القوم بأن يوسعوا ولا يقوم أحد لأحد ، ( الثالث ) أنهم كانوا يحبون القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الرجل منهم يكره أن يضيق عليه فربما سأله أخوه أن يفسح له فيأبى فأمرهم الله تعالى بأن يتعاطفوا ويتحملوا المكروه وكان فيهم من يكره أن يمسه الفقراء ، وكان أهل الصفة يلبسون الصوف ولهم روائح ، ( القول الثاني ) وهو اختيار الحسن أن المراد تفسحوا في مجالس القتال ، وهو كقوله : { مقاعد للقتال } وكان الرجل يأتي الصف فيقول تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة ( والقول الثالث ) أن المراد جميع المجالس والمجامع ، قال القاضي : والأقرب أن المراد ، منه مجلس الرسول عليه السلام ، لأنه تعالى ذكر المجلس على وجه يقتضي كونه معهودا ، والمعهود في زمان نزول الآية ليس إلا مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعظم التنافس عليه ، ومعلوم أن للقرب منه مزية عظيمة لما فيه من سماع حديثه ، ولما فيه من المنزلة ، ولذلك قال عليه السلام : « ليليني منكم أولو الأحلام والنهى » ولذلك كان يقدم الأفاضل من أصحابه ، وكانوا لكثرتهم يتضايقون ، فأمروا بالتفسح إذا أمكن ، لأن ذلك أدخل في التحبب ، وفي الاشتراك في سماع مالا بد منه في الدين ، وإذا صح ذلك في مجلسه ، فحال الجهاد ينبغي أن يكون مثله ، بل ربما كان أولى ، لأن الشديد البأس قد يكون متأخرا عن الصف الأول ، والحاجة إلى تقدمه ماسة فلا بد من التفسح ، ثم يقاس على هذا سائر مجالس العلم والذكر .

أما قوله تعالى : { يفسح الله لكم } فهو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة .

واعلم أن هذه الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة ، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة ، ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس ، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم ، وإدخال السرور في قلبه ، ولذلك قال عليه السلام : « لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه المسلم » .

ثم قال تعالى : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن عباس : إذا قيل لكم : ارتفعوا فارتفعوا ، واللفظ يحتمل وجوها ( أحدها ) إذا قيل لكم : قوموا للتوسعة على الداخل ، فقوموا ( وثانيها ) إذا قيل : قوموا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تطولوا في الكلام ، فقوموا ولا تركزوا معه ، كما قال : { ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } وهو قول الزجاج ( وثالثها ) إذا قيل لكم : قوموا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير وتأهبوا له ، فاشتغلوا به وتأهبوا له ، ولا تتثاقلوا فيه ، قال الضحاك وابن زيد : إن قوما تثاقلوا عن الصلاة ، فأمروا بالقيام لها إذا نودي .

المسألة الثانية : قرئ : { انشزوا } بكسر الشين وبضمها ، وهما لغتان مثل : يعكفون و يعكفون و يعرشون ويعرشون .

واعلم أنه تعالى لما نهاهم أولا عن بعض الأشياء ، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء وعدهم على الطاعات ، فقال : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة درجات ، ثم في المراد من هذه الرفعة قولان : ( الأول ) وهو القول النادر : أن المراد به الرفعة في مجلس الرسول عليه السلام ( والثاني ) وهو القول المشهور : أن المراد منه الرفعة في درجات الثواب ، ومراتب الرضوان .

واعلم أنا أطنبنا في تفسير قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } في فضيلة العلم ، وقال القاضي : لا شبهة أن علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن ، ولذلك فإنه يقتدي بالعلم في كل أفعاله ، ولا يقتدي بغير العالم ، لأنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ، ومحاسبة النفس مالا يعرفه الغير ، ويعلم من كيفية الخشوع والتذلل في العبادة مالا يعرفه غيره ، ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها مالا يعرفه غيره ، ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق مالا يتحفظ منه غيره ، وفي الوجوه كثرة ، لكنه كما تعظم منزلة أفعاله من الطاعات في درجة الثواب ، فكذلك يعظم عقابه فيما يأتيه من الذنوب ، لمكان علمه حتى لا يمتنع في كثير من صغائر غيره أن يكون كبيرا منه .