مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلضَّلَٰلَةُۚ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُواْ ٱلشَّيَٰطِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ} (30)

ثم قال تعالى : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وفيه بحثان :

البحث الأول : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى . قالت المعتزلة : المراد فريقا هدى إلى الجنة والثواب ، وفريقا حق عليهم الضلالة ، أي العذاب والصرف عن طريق الثواب . قال القاضي : لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم ، إذ العبد لا يستحق ، لأن يضل عن الدين ، إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين ، كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة ، وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات .

واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين : الأول : أن قوله : { فريقا هدى } إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل ، ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة ، كان هذا عدولا عن الظاهر من غير حاجة ، لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى . والثاني : نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك ، إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره ، وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذبا ، والكذب على الله محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالا ، وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه . والله أعلم .

البحث الثاني : انتصاب قوله : { وفريقا حق عليهم الضلالة } بفعل يفسره ما بعده ، كأنه قيل : وخذل فريقا حق عليهم الضلالة ، ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة ، هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه ، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل .

فإن قيل : كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم ، بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء . فنقول : عندنا مجموع القدرة ، والداعي يوجب الفعل ، والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل ، هي : أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله .

ثم قال تعالى : { ويحسبون أنهم مهتدون } قال ابن عباس : يريد ما بين لهم عمرو بن لحي ، وهذا بعيد ، بل هو محمول على عمومه ، فكل من شرع في باطل ، فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقا ، أو لم يحسب ذلك ، وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين ، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين ، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ، ولولا أن هذا الحسبان مذموم ، وإلا لما ذمهم بذلك ، والله أعلم .