مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (33)

قوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }

في الآية مسألتان :

المسألة الأولى : أسكن حمزة الياء من { ربي } والباقون فتحوها .

المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام بين في هذه الآية أنواع المحرمات ، فحرم أولا الفواحش ، وثانيا الإثم ، واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه : الأول : أن الفواحش عبارة عن الكبائر ، لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد والإثم عبارة عن الصغائر فكان معنى الآية : أنه حرم الكبائر والصغائر ، وطعن القاضي فيه ، فقال هذا يقتضي أن يقال : الزنا ، والسرقة ، والكفر ليس بإثم . وهو بعيد .

القول الثاني : أن الفاحشة اسم لا يجب فيه الحد ، والإثم اسم لما يجب فيه الحد ، وهذا وإن كان مغايرا للأول إلا أنه قريب منه ، والسؤال فيه ما تقدم .

والقول الثالث : أن الفاحشة اسم للكبيرة ، والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيرا أو صغيرا . والفائدة فيه : أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصود على الكبيرة وعلى هذا القول اختيار القاضي .

والقول الرابع : أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسما لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور ، إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة . والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا : { إنه كان فاحشة } ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك ، وإذا قيل فلان فحاش : فهم أنه يشتم الناس بألفاظ الوقائع ، فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا فقط .

إذا ثبت هذا فنقول : في قوله : { ما ظهر منها وما بطن } على هذا التفسير وجهان : الأول : يريد سر الزنا ، وهو الذي يقع على سبيل العشق والمحبة ، وما ظهر منها بأن يقع علانية . والثاني : أن يراد بما ظهر من الزنا الملامسة والمعانقة { وما بطن } الدخول . وأما الإثم فيجب تخصيصه بالخمر ، لأنه تعالى قال في صفة الخمر : { وإثمهما أكبر من نفعهما وبهذا التقدير : فإنه يظهر الفرق بين اللفظين .

النوع الثالث : من المحرمات قوله : { والبغى بغير الحق } فنقول : أما الذين قالوا : المراد بالفواحش جميع الكبائر ، وبالإثم جميع الذنوب . قالوا : إن البغي والشرك لا بد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم ، إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيها على أنهما أقبح أنواع الذنوب ، كما في قوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وفي قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } ، وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر ، قالوا : البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم فنقول : البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفسا ، أو مالا ، أو عرضا ، وأيضا قد يراد بالبغي الخروج على سلطان الوقت .

فإن قيل : البغي لا يكون إلا بغير الحق ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط .

قلنا أنه مثل قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } والمعنى : لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر ، إلا أن يكون لكم فيه حق ، فحينئذ يخرج من أن يكون بغيا .

والنوع الرابع : من المحرمات قوله تعالى : { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } وفيه سؤال : وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطانا ، وجوابه : المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة ، ولا سلطان ممتنع ، فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك ، فوجب أن يكون القول به باطلا على الإطلاق ، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل .

والنوع الخامس : من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة عند قوله : { إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } وبقي في الآية سؤالان :

السؤال الأول : كلمة «إنما » تفيد الحصر ، فقوله : { إنما حرم ربي } كذا وكذا يفيد الحصر ، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء .

والجواب : إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر ، والإثم على مطلق الذنب دخل كل الذنوب فيه ، وإن حملنا الفاحشة على الزنا ، والإثم على الخمر .

قلنا : الجنايات محصورة في خمسة أنواع : أحدها : الجنايات على الأنساب ، وهي إنما تحصل بالزنا ، وهي المراد بقوله : { إنما حرم ربي الفواحش } وثانيها : الجنايات على العقول ، وهي شرب الخمر ، وإليها الإشارة بقوله : { الإثم } وثالثها : الجنايات على الأعراض . ورابعها : الجنايات على النفوس وعلى الأموال ، وإليهما الإشارة بقوله : { والبغي بغير الحق } وخامسها : الجنايات على الأديان وهي من وجهين : أحدها : الطعن في توحيد الله تعالى ، وإليه الإشارة بقوله : { وأن تشركوا بالله } وثانيها : القول في دين الله من غير معرفة ، وإليه الإشارة بقوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء ، وكانت البواقي كالفروع والتوابع ، لا جرم جعل تعالى ذكرها جاريا مجرى ذكر الكل ، فأدخل فيها كلمة «إنما » المفيدة للحصر .

السؤال الثاني : الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله عنه ، فصار تقدير الآية : إنما حرم ربي المحرمات ، وهو كلام خال عن الفائدة ؟ والجواب : كون الفعل فاحشة هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه ، وعلى هذا التقدير : فيسقط السؤال ، والله أعلم .