مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة العلق

زعم المفسرون : أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن وقال آخرون : الفاتحة أول ما نزل ثم سورة العلق .

{ بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك } اعلم أن في الباء من قوله : { باسم ربك } قولين : ( أحدهما ) : قال أبو عبيدة : الباء زائدة ، والمعنى : اقرأ اسم ربك ، كما قال الأخطل :

هن الحرائر لا ربات أخمرة *** سود المحاجر لا يقرأن بالسور

ومعنى اقرأ اسم ربك ، أي أذكر اسمه ، وهذا القول ضعيف لوجوه ( أحدها ) : أنه لو كان معناه اذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول : ما أنا بقارئ ، أي لا أذكر اسم ربي ( وثانيها ) : أن هذا الأمر لا يليق بالرسول ، لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله ، فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولا به أبدا ( وثالثها ) : أن فيه تضييع الباء من غير فائدة .

القول الثاني : أن المراد من قوله : { اقرأ } أي اقرأ القرآن ، إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه قال تعالى : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } وقال : { وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } وقوله : { باسم ربك } يحتمل وجوها ( أحدها ) : أن يكون محل باسم ربك النصب على الحال فيكون التقدير : اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل : باسم الله ثم اقرأ ، وفي هذا دلالة على أنه يجب قراءة التسمية في ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به ، وفي هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجبا ولا يبتدئ بها ( وثانيها ) : أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا ، نظيره كتبت بالقلم ، وتحقيقه أنه لما قال له : { اقرأ } فقال له : لست بقارئ ، فقال : { اقرأ باسم ربك } أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك ( وثالثها ) : أن قوله : { اقرأ باسم ربك } أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول : بنيت هذه الدار باسم الأمير وصنعت هذا الكتاب باسم الوزير ولأجله ، فإن العبادة إذا صارت لله تعالى ، فكيف يجترئ الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى ؟ فإن قيل : كيف يستمر هذا التأويل في قولك : قبل الأكل بسم الله ، وكذا قبل كل فعل مباح ؟ قلنا : فيه وجهان ( أحدهما ) : أن ذلك إضافة مجازية كما تضيف ضيعتك إلى بعض الكبار لتدفع بذلك ظلم الظلمة ، كذا تضيف فعلك إلى الله ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك ، فقد روى أن من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في ذلك الطعام ( والثاني ) : أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى على طاعة الله فيصير المباح طاعة فيصح ذلك التأويل فيه .

أما قوله : { ربك } ففيه سؤالان :

أحدها : وهو أن الرب من صفات الفعل ، والله من أسماء الذات وأسماء الذات أشرف من أسماء الفعل ، ولأنا قد دللنا بالوجوه الكثيرة على أن اسم الله أشرف من اسم الرب ، ثم إنه تعالى قال ههنا : { باسم ربك } ولم يقل : اقرأ باسم الله كما قال في التسمية المعروفة : { بسم الله الرحمن الرحيم } ( وجوابه ) : أنه أمر بالعبادة ، وبصفات الذات ، وهو لا يستوجب شيئا ، وإنما يستوجب العبادة بصفات الفعل ، فكان ذلك أبلغ في الحث على الطاعة ، ولأن هذه السورة كانت من أوائل ما نزل على ما كان الرسول عليه السلام قد فزع فاستماله ليزول الفزع ، فقال : هو الذي رباك فكيف يفزعك ؟ فأفاد هذا الحرف معنيين ( أحدهما ) : ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل ( والثاني ) : أن الشروع ملزم للإتمام ، وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك ، أي حين كنت علقا لم أدع تربيتك فبعد أن صرت خلقا نفيسا موحدا عارفا بي كيف أضيعك !

السؤال الثاني : ما الحكمة في أنه أضاف ذاته إليه ، فقال : { باسم ربك } ؟ ( الجواب ) : تارة يضيف ذاته إليه بالربوبية كما ههنا ، وتارة يضيفه إلى نفسه بالعبودية ، أسرى بعبده ، نظيره قوله عليه السلام : «علي مني وأنا منه » كأنه تعالى يقول : هو لي وأنا له ، يقرره قوله تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } أو نقول : إضافة ذاته إلى عبده أحسن من إضافة العبد إليه ، إذ قد علم في الشاهد أن من له ابنان ينفعه أكبرهما دون الأصغر ، يقول : هو ابني فحسب لما أنه ينال منه المنفعة ، فيقول الرب تعالى : المنفعة تصل مني إليك ، ولم تصل منك إلى خدمة ولا طاعة إلى الآن ، فأقول : أنا لك ولا أقول أنت لي ، ثم إذا أتيت بما طلبته منك من طاعة أو توبة أضفتك إلى نفسي فقلت : أنزل على عبده { يا عبادي الذين أسرفوا } .

السؤال الثالث : لم ذكر عقيب قوله : { ربك } قوله : { الذي خلق } ؟ ( الجواب ) : كأن العبد يقول : ما الدليل على أنك ربي ؟ فيقول : لأنك كنت بذاتك وصفاتك معدوما . ثم صرت موجودا فلابد لك في ذاتك وصفاتك من خالق ، وهذا الخلق والإيجاد تربية فدل ذلك على أني ربك وأنت مربوبي .