مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ} (5)

قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في قوله { وما أمروا } وجهان : ( أحدهما ) أن يكون المراد : { وما أمروا } في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي ، فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله : { وذلك دين القيمة } علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعا في حقهم فهو مشروع في حقنا ( وثانيها ) أن يكون المراد : وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الأشياء ، وهذا أولى لثلاثة أوجه : ( أحدها ) أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى ( وثانيها ) : وهو أن ذكر محمد عليه السلام قد مر ههنا وهو قوله : { حتى تأتيهم البينة } وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم ( وثالثها ) : أنه تعالى ختم الآية بقوله : { وذلك دين القيمة } فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية دينا قيما فوجب أن يكون شرعا في حقنا سواء قلنا : بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بيانا لشرع محمد عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل .

المسألة الثانية : في قوله : { إلا ليعبدوا الله } دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض ، فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلا لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض ، فلو فعل الله فعلا لكان ناقصا لذاته مستكملا بالغير وهو محال ، لأن ذلك الغرض إن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل ، وإن كان محدثا افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز ، وإن كان قادرا عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثا ، فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلابد فيه من التأويل . ثم قال الفراء : العرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيرا ، من ذلك قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } { يريدون ليطفئوا } وقال في الأمر : { وأمرنا لنسلم } وهي في قراءة عبد الله : { وما أمروا إلا أن يعبدوا الله } فثبت أن المراد : وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين . والإخلاص عبارة عن النية الخالصة ، والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة ، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوبا ، ثم قالت الشافعية : الوضوء مأمور به في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا ، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا ، وأما المعتزلة فإنهم يوجبون تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض ، لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية : وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا الله ، والإستدلال على هذا القول أيضا قوي ، لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين في ذلك الشيء ، وهذا أيضا يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات .

فإن قيل : النظر في معرفة الله مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه . لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة ، فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه . قلنا : هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة .

المسألة الثالثة : قوله : { أمروا } مذكور بلفظ ما لم يسم فاعله وهو : { كتب عليكم الصيام } { كتب عليكم القصاص } قالوا فيه وجوه ( أحدها ) : كأنه تعالى يقول العبادة شاقة ولا أريد مشقتك إرادة أصلية بل إرادتي لعبادتك كإرادة الوالدة لحجامتك ، ولهذا لما آل الأمر إلى الرحمة قال : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } { كتب في قلوبهم الإيمان } وذكر في الواقعات إذا أراد الأب من ابنه عملا يقول له أولا : ينبغي أن تفعل هذا ولا يأمره صريحا ، لأنه ربما يرد عليه فتعظم جنايته ، فههنا أيضا لم يصرح بالأمر لتخف جناية الراد ( وثانيها ) : أنا على القول بالحسن والقبح العقليين ، نقول : كأنه تعالى يقول : لست أنا الآمر للعبادة فقط ، بل عقلك أيضا يأمرك لأن النهاية في التعظيم لمن أوصل إليك [ أن ] نهاية الإنعام واجبة في العقول .

المسألة الرابعة : اللام في قوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله } تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا : العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة ، أو إلى البعد عن عقاب النار ، بل لأجل أنك عبد وهو رب ، فلو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب البتة ، ثم أمرك بالعبادة . وجبت لمحض العبودية ، وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب ، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب ، والحق واسطة ، ونعم ما قيل : من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني .

ومن آثر العرفان لا للعرفان ، بل للمعروف ، فقد خاض لجة الوصول .

المسألة الخامسة : العبادة هي التذلل ، ومنه طريق معبد ، أي مذلل ، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ ، لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام ، وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسما لكل طاعة الله ، أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم ، واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية ، والفعلية ، فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم ، ثم نقول : لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين ( أحدهما ) : غاية التعظيم ، ولذلك قلنا : إن صلاة الصبي ليست بعبادة ، لأنه لا يعرف عظمة الله ، فلا يكون فعله في غاية التعظيم ( والثاني ) : أن يكون مأمورا به ، ففعل اليهودي ليس بعبادة ، وإن تضمن نهاية التعظيم ، لأنه غير مأمور به ، والنكتة الوعظية فيه ، أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر ، فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم ؟ .

المسألة السادسة : الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة ، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل ، والنكت الوعظية فيه من وجوه ( أحدها ) : كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك ، بل بذلت لك البعض ، فأطلب منك البعض نصفا من العشرين ، وشاة من الأربعين ، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك ، فلا ترد بطاعتك سواي ، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلا من أن تستثنيه لغيرك ، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص ، وأما الالتفات المكروه فذا حظ الشيطان ( وثانيها ) كأنه تعالى قال : يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة ، فإذا لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد ، ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن ، فكأنه تعالى بفضله قال : الملك لا يخدم الملك لكن [ لكي ] نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } فاجعل أنت أيضا جميع ما تفعله لأجلي : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } .

واعلم أن قوله : { مخلصين } نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه ، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه ، والواجب لوجوبه ، فيأتي بالفعل لوجهه مخلصا لربه ، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر ، بل قالوا : لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا وإن كان لابد من ذلك ، وفي التوراة : ما أريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل . وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير ، مثل الواجب من الأضحية شاة ، فإذا ذبحت اثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك ، وإن زدت في الخشوع ، لأن الناس يرونه لم يجز ، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة أخرى ، فكيف ولو خلطت بها محظورا مثل أن تتقدم على إمامك ، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص ، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص ، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص ؟ وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله : { مخلصين } قال بعضهم : مقرين له بالعبادة ، وقال آخرون : قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة ، وقال الزجاج : أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره ، ويدل على هذا قوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } .

أما قوله تعالى : { حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } ففيه أقوال :

الأول : قال مجاهد : متبعين دين إبراهيم عليه السلام ، ولذلك قال : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وهذا التفسير فيه لطيفة كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضا بالكلية ، فلا جرم ذكر قوما أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم ، وهو إبراهيم ومن معه ، فقال : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } فكأنه تعالى قال : إن كنت تقلد أحدا في دينك ، فكن مقلدا إبراهيم ، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران ، ومن ماحين بذله للضيفان ، ومن ولده حين بذله للقربان ، بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه ، ولم ير شخصا فاستعاده ، فقال : أما بغير أجر فلا ، فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام ، وقال : حق لك حيث سماك خليلا فخذ مالك ، فإن القائل : كنت أنا ، بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال : أما إليك فلا ، فالحق سبحانه كأنه يقول : إن كنت عابدا فاعبد كعبادته ، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين ، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين ، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم ، فاجتهد في متابعة ولده الصبي ، كيف انقاد لحكم ربه مع صغره ، فمد عنقه لحكم الرؤيا ، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل ، وهو أم الذبيح ، كيف تجرعت تلك الغصة ، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الاثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإراث ، والرقيقة نصف الحرة بدليل أن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل ، ثم انظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف ، لا يكلمها ولا يعطف عليها ، قالت آلله أمرك بهذا ؟ فأومأ برأسه نعم ، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق .

والقول الثاني : المراد من قوله : { حنفاء } أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة ، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل ، كقولنا : للأعمى بصير وللمهلكة مفازة ، ونظيره قوله تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } { اهدنا الصراط المستقيم } .

والقول الثالث : قال ابن عباس رضي الله عنهما حجاجا ، وذلك لأنه ذكر العباد أولا ثم قال : { حنفاء } وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال ( الرابع ) : قال أبو قلابة الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحدا منهم ، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفا ( الخامس ) : حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين ، قال عليه السلام : ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) ( السادس ) : قال قتادة : هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم ، فقوله : { حنفاء } إشارة إلى النفي ، ثم أردفه بالإثبات ، وهو قوله : { ويقيموا الصلاة } ( السابع ) : قال أبو مسلم : أصله من الحنف في الرجل ، وهو إدبار إبهامها عن أخواتها حتى يقبل على إبهام الأخرى ، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام ( الثامن ) : قال الربيع بن أنس : الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته ، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا ، وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مرارا كثيرة ، ثم قال : { وذلك دين القيمة } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال المبرد والزجاج : ذلك دين الملة القيمة ، فالقيمة نعت لموصوف محذوف ، والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة ، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله : { كتب قيمة } وقال الفراء : هذا من إضافة النعت إلى المنعوت ، كقوله : { إن هذا لهو حق اليقين } والهاء للمبالغة كما في قوله : { كتب قيمة } .

المسألة الثانية : في هذه الآية لطائف ( إحداها ) : أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معا ، فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول ، وهم اليهود والنصارى والمجوس ، فإنهم ربما أتعبوا أنفسهم في الطاعات ، ولكنهم ما حصلوا الدين الحق ، وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع ، وهم المرجئة الذين قالوا : لا يضر الذنب مع الإيمان ، والله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية ، وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله : { مخلصين } ومن العمل في قوله : { ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } ثم قال : { وذلك } المجموع كله هو { دين القيمة } أي البينة المستقيمة المعتدلة ، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هو المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك ، ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول : القائم بتحصيل مصالحك عاجلا وآجلا هو هذا المجموع ، ونظيره قوله تعالى : { دينا قيما } وقوله في القرآن : { قيما لينذر بأسا شديدا } لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق ، ويؤيده قوله عليه السلام : ( من كان في عمل الله كان الله في عمله ) وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : «يا دنيا من خدمك فاستخدميه ، ومن خدمني فاخدميه » ، ( وثانيها ) : أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة ، وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح ، لخالقهم فالإحسان من الله لا من الملائكة ، والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من الله ، ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول الله مباهيا بهم : ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا ، بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا وتصدقوا ، ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان ، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين ؛ أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان ، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين ، فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة ، فلهذا قال : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } أفلا يكون هذا الدين قيما ( وثالثها ) : أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز ، والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للدين كالعلم والزكاة كالقدرة ، فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة ( ورابعها ) : وهو فائدة الترتيب أن الحكيم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء ، وهو القول والاعتقاد فقال : { مخلصين } ثم لما أجابوه زاده ، فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت ، ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال : «لا زكاة في مال يحول عليه الحول » ثم لما ذكر الكل قال : { وذلك دين القيمة } .

المسألة الثالثة : احتج من قال : الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية ، فقال : مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فإذا مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان ، لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة . ثم قال : { وذلك دين القيمة } أي وذلك المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا : إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } وإنما قلنا : إن الإسلام هو الإيمان لوجهين ( الأول ) : أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله تعالى لقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله ، فهو إذا عين الإسلام ( والثاني ) : قوله تعالى : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } فاستثناء المسلم من المؤمن ، يدل على أن الإسلام يصدق عليه ، وإذا ثبتت هذه المقدمات ، ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان ، وحينئذ يبطل قول من قال : الإيمان اسم لمجرد المعرفة ، أو لمجرد الإقرار أولهما معا ( والجواب ) : لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله : { وذلك } إلى الإخلاص فقط ؟ والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى ، وأنتم تحتاجون إلى الإضمار ، فتقولون : المراد وذلك المذكور ، ولا شك أن عدم الإضمار أولى ، سلمنا أن قوله : { وذلك } إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم ، فلم قلتم : إن ذلك المجموع هو الدين ، وذلك لأن الدين غير ، والدين القيم ، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه ، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلا ، وكانت آثاره ونتائجه معه حاصلة أيضا ، وهي الصلاة والزكاة ، وإذا لم يوجد هذا المجموع ، لم يكن الدين القيم حاصلا ، لكن لم قلتم : إن أصل الدين لا يكون حاصلا والنزاع ما وقع إلا فيه ؟ والله أعلم .