{ فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى } قاله عليه السلام اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال وندماً عليه وتمهيداً لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها على ما هو المشهور ، والخير كثر استعماله في المال ومنه قوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [ البقرة : 180 ] وقوله سبحانه : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } [ البقرة : 273 ] وقوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] وقال بعض العلماء : لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن مكان طيب كما روي أن علياً كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له فقال : ألا أوصي يا أمير المؤمنين ؟ قال ، لا لأن الله تعالى يقول : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وليس لك مال كثير ، وروى تفسيره بالمال هنا عن الضحاك . وابن جبير ، وقال أبو حيان : يراد بالخير الخيل والعرب تسمى الخيل الخير ، وحكي ذلك عن قتادة . والسدي ، ولعل ذلك لتعلق الخير بها ، ففي الخبر «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة » والأحباب على ما نقل عن الفراء مضمن معنى الإيثار وهو ملحق بالحقيقة لشهرته في ذلك ، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه فهو مما يتعدى بعلى لكن عدى هنا بعن لتضمينه معنى الإنابة { وَحَبَّ الخير } مفعول به أي آثرت حب الخير منيباً له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثراً له .
وجوز كون { حُبَّ } منصوباً على المصدر التشبيهي ويكون مفعول { أَحْبَبْتُ } محذوفاً أي أحببت الصافنات أو عرضها حباً مثل حب الخير منيباً لذلك عن ذكر ربي ، وليس المراد بالخير عليه الخيل وذكر أبو الفتح الهمداني أن أحببت بمعنى لزمت من قوله
: ضرب بعير السوء إذ أحبا *** واعترض بأن أحب بهذا المعنى غريب لم يرد إلا في هذا البيت وغرابة اللفظ تدل على اللكنة وكلام الله عز وجل منزه عن ذلك ، مع أن اللزوم لا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى يتعدى به أو تجوز به عنه فلم يبق فائدة في العدول عن المعنى المشهور مع صحته أيضاً بالتضمين وجعل بعضهم الأحباب من أول الأمر بمعنى التقاعد والاحتباس وحب الخير مفعولاً لأجله أي تقاعدت واحتبست عن ذكر ربي لحب الخير . وتعقب بأن الذي يدل عليه كلام اللغويين أنه لزوم عن تعب أو مرض ونحوه فلا يناسب تقاعد النشاط والتلهي الذي كان عليه السلام فيه وقول بعض الأجلة : بعد التنزل عن جواز استعمال المقيد في المطلق لما كان لزوم المكان لمحبة الخيل على خلاف مرضاة الله تعالى جعلها من الأمراض التي تحتاج إلى التداوي بأضدادها ولذلك عقرها ففي { أَحْبَبْتُ } استعارة تبعية لا يخفى حسنها ومناسبتها للمقام ليس بشيء لخفاء هذه الاستعارة نفسها وعدم ظهور قرينتها ، وبالجملة ما ذكره أبو الفتح مما لا ينبغي أن يفتح له باب الاستحسان عند ذوي العرفان ، وجوز حمل { أَحْبَبْتُ } ، وجوز في عن كونها تعليلية وسيأتي إن شاء الله تعالى و { ذُكِرَ } مضاف إلى مفعوله وجوز أن يكون مضافاً إلى فاعله .
وقيل الإضافة على معنى اللام ولا يراد بالذكر المعنى المصدري بل يراد به الصلاة فمعنى عن ذكر ربي عن صلاة ربي التي شرعها وهو كما ترى .
وبعض من جعل عن للتعليل فسر ذلك الرب بكتابه عز وجل وهو التوراة أي أحببت الخيل بسبب كتاب الله تعالى وهو التوراة فإن فيه مدح ارتباطها وروي ذلك عن أبي مسلم ، وقرأ أبو جعفر . ونافع . وابن كثير . وأبو عمرو { إِنّى أَحْبَبْتُ } بفتح الياء { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } متعلق بقوله تعالى : { أَحْبَبْتُ } باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى غربت الشمس تشبيهاً لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها على طريق الاستعارة التبعية ، ويجوز أن يكون هناك استعارة مكنية تخييلية وأياً ما كان فما أخرجه ابن المنذر . وابن أبي حاتم . وأبو الشيخ عن كعب ، قال : الحجاب هو حجاب من ياقوت أخضر محيط بالخلائق منه اخضرت السماء ، وما قيل إنه جبل دون قاف بسنة تغرب الشمس وراءه لا يخفى حاله ، والناس في ثبوت جبل قاف بين مصدق ومكذب والقرافي يقول لا وجود له وإليه أميل وإن قال المثبتون ما قالوا ، والباء للظرفية أو الاستعانة أو الملابسة ، وعود الضمير إلى الشمس من غير ذكر لدلالة العشي عليها ، والضمير المنصوب في قوله تعالى : { رُدُّوهَا عَلَىَّ } .
قوله تعالى : { فقال إني أحببت حب الخير } أي : آثرت حب الخير ، وأراد بالخير الخيل ، والعرب تعاقب بين الراء واللام ، فتقول : ختلت الرجل وخترته ، أي : خدعته ، وسميت الخيل خيراً لأنه معقود بنواصيها الخير ، الأجر والمغنم ، قال مقاتل : يعني المال ، فهي الخيل التي عرضت عليه . { عن ذكر ربي } يعني : عن الصلاة وهي صلاة العصر . { حتى توارت بالحجاب } : أي : توارث الشمس بالحجاب : استترت بما يحجبها عن الأبصار ، يقال : الحاجب جبل دون قاف ، بمسيرة سنة ، والشمس تغرب من ورائه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقال إني أحببت حب الخير} المال، وهو الخيل الذي عرض عليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فَقالَ إنّي أحْبَبْتُ حُبّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبّي حتى تَوَارَتْ بالحِجابِ"، وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره: فَلهِيَ عن الصلاة حتى فاتته، فقال: إني أحببت حبّ الخير. ويعني بقوله: "فَقالَ إنّي أحْبَبْتُ حُبّ الخَيْرِ": أي أحببت حبا للخير، ثم أضيف الحبّ إلى الخير، وعنى بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمي الخيل الخير، والمال أيضا يسمونه الخير...
وقوله: "عَنْ ذِكْرِ رَبّي "يقول: إني أحببت حبّ الخير حتى سهوت عن ذكر ربي وأداء فريضته. وقيل: إن ذلك كان صلاة العصر...
وقوله: "حتى تَوَارَتْ بالحِجابِ "يقول: حتى توارت الشمس بالحجاب، يعني: تغيبت في مغيبها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزته مع زيادة أوبته لتحصل التأسية به في حسن ائتماره وانتهائه، والتسلية بابتلائه مع ذلك من شرفه وبهائه، أشار إلى كثرة الخيل جداً وزيادة محبته لها وسرعة أوبته بقوله: {فقال} ولما كان اللائق بحاله والمعروف من فعاله أنه لا يؤثر على ذكر الله شيئاً فلا يكاد أحد ممن شاهد ذلك يظن به ذلك، بل يوجهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محامل تليق بما يعرفونه من حال من الإقبال على الله والغنا عما سواه، أكد قوله تواضعاً لله تعالى ليعتقدوا أنه بشر يجوز عليه ما يجوز عليهم لولا عصمة الله: {إني} ولما كان الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحب فهو غير دال عليه إلا بقرائن قال اعترافاً: {أحببت} أي أوجدت وأظهرت بما ظهر مني من الاشتغال بالخيل مقروناً ذلك بأدلة الود.
{حب الخير} وهو المال بل خلاصة المال وسبب كل خير دنيوي وأخروي... أظهرت ذلك بغاية الرغبة غافلاً {عن ذكر ربي} المحسن إليّ بهذه الخيل التي شغلتني وغيرها، فلم أذكره بالصلاة التي كانت وظيفة الوقت وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له، ولم يزل ذلك بي {حتى توارت} أي الشمس المفهومة من "العشي".
{بالحجاب} وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها فصارت وراءها حقيقة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أصل تركيب {أحْببتُ حبَّ الخيرِ}: أحببتُ الخير حُبًّا، فحول التركيب إلى {أحببتُ حب الخيرِ} فصار {حُبَّ الخيرِ} تمييزاً لإِسناد نسبة المحبة إلى نفسه لغرض الإِجمال ثم التفصيل...
وضمن {أحْبَبْتُ} معنى عَوَّضت، فعدِّي ب {عن} في قوله: {عن ذِكرِ ربي} فصار المعنى: أحببت الخير حبّاً فجاوزت ذكر ربي، والمراد بذكر الرّب الصلاة، فلعلها صلاة كان رتبها لنفسه لأن وقت العشي ليست فيه صلاة مفروضة في شريعة موسى إلا المغرب...
{الخير}: المال النفيس، والخيل من المال النفيس. وقال الفراء: الخير بالراء من أسماء الخيل، وقلت: إن العرب من عادتهم التفاؤل ولهم بالخيل عناية عظيمة حتى وصفوا شياتها وزعموا دلالتها على بخت أو نحس؛ فلعلهم سموها الخير تفاؤلاً لتتمحض للسعد والبخت، والكلام تمثيل لحالة غروب الشمس بتواري المرأة وراء الحجاب وكل من أجزاء هذه التمثيلية مستعار؛ فللشمس استعيرت المرأة على طريقة المكنية، ولاختفائها عن الأنظار استعير التواري، ولأُفق غروب الشمس استعير الحجاب، وكلامه هذا خبر مستعمل في التحسر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أثار بعض المفسرين احتمال أن يكون انشغاله بحب الخير عن ذكر ربه منطلقاً من أمر الله، ليكون استعراضه وحبه لها عملاً عبادياً ليتهيأ بها للجهاد في سبيل الله، وبذلك يكون الشاغل له عن عبادة الله عملاً يختزنها أي العبادة لله تعالى في داخله. ولعل الأساس في هذا التوجيه التفسيري، هو الخروج بعمل سليمان عن كونه مخالفاً لموقعه الرسالي، في انشغاله باستعراض الخيل عن عبادة الله الواجبة في وقتٍ معين. ولكن ما تقدم ليس بحجةٍ قويةٍ، لا سيما إذا كانت الصلاة موقتةً بوقت معيّن في ذلك العصر، بحيث يذهب وقتها بغروب الشمس وتواريها بالحجاب، كما يظهر من بعض الروايات، لذا فإن الانشغال عنها المؤدّي إلى تركها، بعملٍ آخر مرضٍ لله، موسعٍ في وقته، غير مبّررٍ شرعاً. ولهذا فقد يكون من الأقرب إبقاء الآية على ظاهرها الذي يوحي بأن سليمان كان في مقام توبيخ نفسه أو الاعتذار إلى الله عما حدث، وهو ما لا يتناسب بالتأكيد مع التوجيه المذكور الذي قد لا يكون له معنى، إلا أن يقال: إن ذلك بلحاظ أهميّة الصلاة، وبذلك يكون قد قدّم المهمّ على الأهم في الوقت الذي يتسع للعملين معاً، مع كون تقديم الصلاة أفضل، بلحاظ الوقت.