الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ} (32)

واختلفَ المتأولونَ في قَصَصِ هذهِ الخيل المَعْرُوضَةِ عَلى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السلامُ فقال الجُمْهُورُ : إنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السلام عُرِضَتْ عليه آلافٌ مِنَ الخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ ، فأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عِشَاءً ، فَتَشَاغَلَ بجريها وَمَحَبَّتِهَا ، حتى فَاتَهُ وَقْتُ صَلاَةِ العَشِيِّ ، فَأَسِفَ لِذَلِكَ ؛ وَقَالَ : رُدُّوا عَلَيَّ الخَيْلَ ؛ فَطَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَها وأعْنَاقَها بالسَّيْفِ ، قَالَ الثَّعْلَبيُّ وغيره ، وجَعَل يَنْحَرُهَا تَقَرُّباً إلى اللَّهِ تعالى ؛ حيثُ اشْتَغَل بِهَا عَنْ طَاعَتِهِ ، وكان ذلكَ مُبَاحاً لَهُمْ كما أُبِيحَ لَنا بهيمةُ الأنْعَامِ ، قال ( ع ) : فَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تعالى أَبْدَلَهُ مِنْهَا أَسْرَعَ منها ، وهي الرِّيحُ ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه » : و{ الخير } هنا هي الخيل ؛ وكذلكَ قَرأَها ابنُ مَسْعُود : «إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْلِ » انتهى . والصَّافِنُ : الذي يَرْفَعُ إحدى يديه ؛ وقَدْ يَفْعَلُ ذلكَ برِجْلِهِ ؛ وهي علامةُ الفَرَاهِيَة ؛ وأَنْشَدَ الزَّجَّاجُ :

أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّه *** مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسِيرَا

قالَ بَعْضُ العلَماء : { الخير } هنَا أرادَ به الخَيْلَ ، والعَرَبُ تُسَمي الخَيْلَ ، الخَيْرَ ، وفي مِصْحَفِ ابْن مَسْعُودٍ : ( حُبَّ الخَيْلِ ) باللامِ ، والضميرُ في { تَوَارَتْ } للشمسِ ، وإن كَانَ لَمْ يَتَقَدَّم لَهَا ذِكْرٌ : لأنَّ المعنى يَقْتَضِيهَا ، وأيضاً فَذِكْرُ العَشِيِّ يَتَضَمَّنُهَا ، وقالَ بعضُ المفسرينَ حتى { تَوَارَتْ بالحجاب } ، أَي : الخيلُ دَخَلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا ، وقال ابنُ عبَّاسٍ والزُّهْرِيُّ : مَسْحُهُ { بالسُّوقِ والأَعْنَاقِ } لَمْ يَكُنْ بالسَّيْفِ ؛ بل بيدهِ تَكْرِيماً لَها ؛ ورَجَّحَهُ الطبريُّ ، وفي البخاري : { فَطَفِقَ مَسْحاً } يمسحُ أعْرَافَ الخَيلِ وعَرَاقِيبَهَا ؛ انتهى . وعن بعضِ العلماءِ أَنَّ هذهِ القصةَ لَمْ يَكُنْ فيها فَوْتُ صلاةٍ ، وقالوا : عُرِضَ على سليمانَ الخيلُ وهو في الصلاةِ ، فأشَارَ إليهم ؛ أي : إني في صلاةٍ ، فأزَالُوهَا عَنْهُ حتى أَدْخَلُوها في الإصْطَبْلاَتِ ، فقالَ هو ، لَمَّا فَرَغَ من صلاته : { إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخيرِ } ، أي : الذي عِنْدَ اللَّهِ في الآخِرةِ ؛ بسببِ ذِكْرِ ربي ، كَأَنه يقول : فَشَغَلَنِي ذلكَ عَنْ رُؤْيَةِ الخيلِ ، حتى أُدْخِلَتْ إصْطَبْلاَتِهَا ، رُدُّوهَا عَليّ ، فَطَفِقَ يَمْسَحُ أعْرَافَهَا وسُوقَهَا ، تَكْرمةً لها ، أي : لأَنَّها معدَّةٌ للجهَادِ ، وهذا هو الراجحُ عند الفخر ، قال : ولو كانَ معنى مَسْحِ السُّوقِ والأعناقِ قَطْعَهَا لَكَانَ معنى قوله : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } قطعَهَا .

( ت ) : وهَذَا لا يلزمُ للقرينَةِ في الموضعين ، ا . ه . قال أبو حَيَّان : و{ حُبَّ الخير } قال الفراء : مفعولٌ بهِ ، { أَحْبَبْتُ } مُضَمَّنٌ معنى آثَرْتُ ، وقيلَ : منصوبٌ على المصدرِ التَّشْبِيهِي ، أي : حبًّا مِثْلَ حُبِّ الخير ، انتهى .

وقوله : { عَن ذِكْرِ رَبِّى } { عن } على كُلِّ تَأويلٍ هنا للمُجَاوَزَةِ من شيءٍ إلى شَيْءٍ ، وَتَدَبَّرْهُ فإنه مُطَّرِدٌ .