روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدٗا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (4)

{ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء } استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله وعيسى ابنه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجاً أولياً ، وحاصل المعنى لو أراد الله سبحانه اتخاذ الولد لامتنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض .

وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيهاً على أن الممكن هذا لا الأول وإنه لو كان هذا من اتخاذ الولد في شيء لجاز اتخاذ الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صوبة ؛ ويجوز أن يكون المراد لو أراد الله أن يتخذ لامتنع ولم يصح لكن على إرادة نفي الصحة على كل تقدير من تقديري الإرادة وعدمها من باب لو لم يخف الله لم يعصه فلا ينفي الثاني إذ ذاك ولا يحتاج إلى بيان الملازمة وإذا امتنع ذلك فالممكن الاصطفاء وقد اصطفى سبحانه من مخلوقاته من شاء كالملائكة وعيسى وذهب عليكم أن الاصطفاء ليس باتخاذ ، والجواب على هذا الوجه أيضاً محذوف أقيم مقامه ما يفيد زيادة مبالغة ، وإنما لم يجعل لاصطفى هو الجواب عليه لصيرورة المعنى حينئذ لو أراد اتخاذ الولد لاصطفى ولو لم يرد لاصطفى من طريق الأولى وحينئذ يكون إثبات الاصطفاء هو المطلوب من الإيراد كما أن التمدح بنفي العصيان في مثال الباب هو المطلوب وليس الكلام فيه ، وعلى الوجهين هو من أسلوب

: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وجوز أن يكون المعنى في الآية لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولداً لجعل المخلوق ولداً إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له تعالى والتالي محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق والولدية تأبى تلك المباينة فالمقدم مثله ويكون قوله تعالى { لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء } على معنى لاتخذه ابناً على سبيل الكناية وما تقدم أولى لما فيه من المبالغة التي نبهت عليها ، وقوله تعالى : { سبحانه } تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه سبحانه عنه أي تنزهه الخاص به تعالى على أن سبحان مصدر من سبح إذا بعض أو أسبحه تسبيحاً لائقاً به لأنه علم للتسبيح مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحاً لائقاً بشأنه جل شأنه ، وقوله تعالى : { هُوَ الله الواحد القهار } استئناف مقرر لتنزهه عن ذلك أيضاً فإن اتخاذ الولد يقتضي تبعضاً وانفصال شيء من شيء وكذا يقتضي المماثلة بين الولد والوالد والوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعض والانفصال إباء ظاهراً لأنهما من خواص الكم وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه ، ولعل مراده نحو ما مر عن الماتريدي وإلا فمع التساوي من كل وجه ينتفي التعدد فينتفي التماثل بناء على ما قرروا من أن الوحدة الذاتية كما تقتضي نفي الأبعاض المقدارية تقتضي نفي الكثرة العقلية وأن التماثل يقتضي التعدد وهو يقتضي ثبوت الأجزاء المذكورة كذا قيل ، وفيه بحث طويل وكلام غير قليل وسنذكر بعضاً منه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص فالأولى أن يقتصر على منافاة الوحدة الذاتية للتبعض والانفصال لاستلزامهما التركب الخارجي والحكماء والمتكلمون مجمعون على استحالته في حقه تعالى ودليلها أظهر من يذكر ، وكذا وصف القهارية يأبى اتخاذ الولد وقرر ذلك على أوجه ، فقيل وجه إبائها ذلك أن القهارية تقتضي الغنى الذاتي الذي هو أعلى مراتب الغنى وهو يقتضي التجرد عن المادة وتولد الولد عن الشيء يقتضيها ، وقيل إن القهارية تقتضي كمال الغنى وهو يقتضي كمال التجرد الذي هو البساطة من كل الوجوه فلا يكون هناك جنس وفصل ومادة وصورة وإعراض وأبعاض إلى غير ذلك مما يخل بالبساطة الكاملة الحقيقية واتخاذ الولد لما فيه من الانفصال والمثلية مخل بتلك البساطة فيخل بالغنى فيخل بالقهارية ، وقد أشار سبحانه إلى أن الغنى ينافي أن يكون له سبحانه ولد بقوله تعالى : { قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه هُوَ الغنى } [ يونس : 68 ] وقيل : إن اتخاذ الولد يقتضي انفصال شيء عنه تعالى وذلك يقتضي أن يكون متأثراً مقهوراً لا مؤثراً قهاراً تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، فحيث كان جل وعلا قهاراً كما هو مقتضى الألوهية استحال أن يكون له عز وجل ولد ، وقيل : إن القهارية منافية للزوال لأن القهار لو قبله كان مقهوراً إذ المزيل قاهر له ولذا قيل سبحانه من قهر العباد بالموت .

والولد من أعظم فوائده عندهم قيامه مقام الأب بعد زواله فإذا لم يكن الزوال لم يكن حاجة إلى الولد وهذا مع كونه إلزامياً لا يخلو عن بحث كما لا يخفى .

والزمخشري جعل قوله تعالى : { سبحانه هُوَ الله } الخ متصلاً بقوله عز وجل : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } [ الزمر : 3 ] الخ على أنه مقرر نفى أن يكون له تعالى ولي ونفى أن يكون له ولد ، ولعل بيان ذلك لا يخفى فتدبر .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَّوۡ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدٗا لَّٱصۡطَفَىٰ مِمَّا يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ سُبۡحَٰنَهُۥۖ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ} (4)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"لَوْ أرَادَ اللّهُ أنْ يَتّخِذَ وَلِدا": يقول تعالى ذكره: لو شاء الله اتخاذ ولد، ولا ينبغي له ذلك، لاصطفى مما يخلق ما يشاء، يقول: لاختار من خلقه ما يشاء.

وقوله: "سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الوَاحِدُ القَهّارُ": يقول: تنزيها لله عن أن يكون له ولد، وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم "هُوَ اللّهُ "يقول: هو الذي يَعْبده كلّ شيء، ولو كان له ولد لم يكن له عبدا، يقول: فالأشياء كلها له ملك، فأنى يكون له ولد، وهو الواحد الذي لا شريك له في مُلكه وسلطانه، والقهار لخلقه بقدرته، فكل شيء له متذلّل، ومن سطوته خاشع.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ظاهر هذا أن إيجاد الولد له من المحتمل والممكن، ليس من الممتنع، لكن قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 90 و91] يدل على أن إيجاد الولد من الممتنع والعظيم في العقول والقلوب جميعا.

{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أي لو جاز، أو احتمل إيجاد الولد على ما تقولون أنتم، وتتوهمون لاصطفى، واختار مما يشاء هو ليس على ما تختارون أنتم له وتشاؤون، أن الملائكة بنات الله على ما تزعمون؛ إذ العرف في الخلق أن من اتخذ لنفسه شيئا إنما اتخذه من أعز الأشياء وأرفعها وأعظمها قدرا عندهم لا من أخس الأشياء وأذلها. والثاني: مبنى الإيجاد راجع إلى البنين؛ إذ كانت الكفرة ينسبونه إلى أنهم بناته، وإلى أن عيسى ابنه، وإنما تتخذ الأولاد وينسبون ليستنصر بهم، فبرأ الله عز وجل نفسه عن احتمال الشكل وخوف الغلبة، فقال: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} دفع ما قالوا فيه، وأحاله؛ ذلك لما أخبر أنه واحد في الذات. ولو كان له ما ذكر هؤلاء من الولد لم يكن واحدا في الذات؛ إذ كل محتمل الولد منه هو من شكل الولد. فإن عرفهم أنه واحد لم يحتمل الولد وما ذكروا.

{القهار}: دلالة إحالة ذلك؛ لأنه أخبر أنه قهار، والولد في الشاهد إنما يتخذ لأحد وجوه: إما لوحشة أصابته فيستأنس، وإما لحاجة تمسه فيدفع بالولد تلك، وإما لغلبة شهوة فيقضيها فيتولد من ذلك الولد، وإما لوراثة ملكه بعد موته، وهو دائم باق لا يزول ملكه، وإما لاستعانة به والنصرة على أعدائه. لأحد هذه الوجوه التي ذكرنا يحتاج المرء إلى اتخاذ الولد، وهو قادر بذاته قاهر غني، لا يحتمل ما ذكروا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{سبحانه} فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء، ودلَّ على ذلك بما ينافيه، وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبة؛ لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له؛ وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} [الأنعام: 101].

قهار غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

الولد يكون على وجهين: أحدهما: بالولادة الحقيقية وهذا محال على الله تعالى لا يجوز في العقل.

الثاني: التبني بمعنى الاختصاص والتقريب كما يتخذ الإنسان ولد غيره ولدا لإفراط محبته له وذلك ممتنع على الله بإخبار الشرع فإن قوله:

{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} [مريم:92] يعم نفي الوجهين...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أخبر سبحانه بالحكم بينهم، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً بنفي الشريك، كافياً في ذلك؛ لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم، فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن يقول: فما حال من يتولى الولد؟ -قال القشيري: والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه -: {لو أراد الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال {أن يتخذ} أي يتكلف كما هو دأبكم، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً {ولداً} أي كما زعم من زعم ذلك، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً، وكان الله قادراً على كل شيء، عدل عن أن يقول {لاتخذ} إلى قوله: {لاصطفى} أي اختار على سبيل التبني {مما يخلق} أي يبدعه في أسرع من الطرف، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل، إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار- كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال: {ما يشاء} أي مما يقوم مقام الولد، فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد، إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك.

ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز في العقل أن يخلق خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات، فكنتم كاذبين من جهتين، هذا غاية الإمكان، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا، بل هو مما يحيله العقل؛ لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً.

ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام فقال: {سبحانه} أي له التنزيه التام عن كل نقيصة، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال: {هو} أي الفاعل لهذا الفعال، والقائل لهذه الأقوال، ظاهراً وباطناً.

{الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال: {الواحد} أي الذي لا ينقسم أصلاً، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه.

{القهار} أي الذي له هذه الصفة، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار، فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{سبحانه} تقريرٌ لما ذُكر من استحالة اتِّخاذ الولد في حقِّه تعالى وتأكيدٌ له ببيانِ تنزُّهه تعالى عنه أي تنزّه بالذَّاتِ عن ذلك تنزهه الخاصّ به، على أنَّ السُّبحانَ مصدر من سبَح إذا بعُد، أو أسبِّحه تسبيحاً لائقاً به على أنَّه عَلَم للتَّسبيح مقولٌ على ألسنة العباد أو سبِّحوه تسبيحاً حقيقاً بشأنِه.

{هُوَ الله الواحد القهار} استئنافٌ مبيِّنٌ لتنزُّههِ تعالى بحسبِ الصِّفاتِ إثرَ بيانِ تنزُّههِ تعالى عنه بحسب الذَّاتِ؛ فإنَّ صفةَ الأُلوهيَّةِ المستتبعة لسائر صفاتِ الكمال النَّافيةِ لسماتِ النُّقصانِ والوحدة الذَّاتية، الموجبة لامتناعِ المُماثلة والمُشاركة بينه تعالى وبين غيرِه على الإطلاقِ، ممَّا يقضِي بتنزُّهه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقناً، وكذا وصف القهَّاريَّةِ.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

"لو": هنا هي الملقبة (لو) الصهيبية، أي التي شرطها مفروض فرضاً على أقصى احتمال، وهي التي يُمثلون لها بالمثل المشهور: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه... فكان هذا إبطالاً لما تضمنه قوله: {والذين اتَّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم} إلى قوله: {كَفَّار} [الزمر: 3]، وليس هو إبطالاً لمقالة بعض العرب: إن الملائكة بنات الله؛ لأن ذلك لم يكن من عقيدة المشركين بمكة الذين وجه الخطاب إليهم، ولا إبطالاً لبنوة المسيح عند النصارى؛ لأن ذلك غير معتقَد عند المشركين المخاطبين ولا شعور لهم به، وليس المقصود محاجّة النصارى؛ ولم يتعرض القرآن المكي إلى محاجّة النصارى.

واعلم أنه بني الدليل على قاعدة استحالة الولد على الله تعالى إذ بُني القياس الشرطي على فرض اتخاذ الولد لا على فرض التولّد، فاقتضى أن المراد باتخاذ الولد: التبنّي؛ لأن إبطال التبنّي بهذا الاستدلال يستلزم إبطال تولد الابن بالأولى. وعزز المقصود من ذكر فعل الاتخاذ بتعقيبه بفعل الاصطفاء على طريقة مجاراة الخصم المخطئ ليغير في مهواة خطئه، أي لو كان لأحد من الله نسبة بنوة لكانت تلك النسبة التبنِّيَ لا غير إذ لا تتعقل بنوة لله غير التبنّي ولو كان الله متبنِّياً، لاختار ما هو الأليق بالتبنّي من مخلوقاته دون الحجارة التي زعمتموها بنات لله، وإذا بطلت بنوة تلك الأصنام الثلاثة المزعومة، بطلت إلهية سائر الأصنام الأخرى التي اعترفوا بأنها في مرتبة دون مرتبة اللات والعزّى ومناة بطريق الأوْلى، واتفاقِ الخصمين فقد اقتضى الكلام دليلين: طوي أحدهما وهو دليل استحالة الولد بالمعنى الحقيقي عن الله تعالى، وذكر دليل إبطال التبنّي لما لا يليق أن يتبناه الحكيم، هذا وجه تفسير هذه الآية وبيان وقعها مما قبلها وبه تخرج عن نطاق الحيرة التي وقع فيها المفسرون فسلكوا مسالك تعسف في معناها ونظمها وموقعها، ولم يتم لأحد منهم وجه الملازمة بين شرط {لو} وجوابها، وسكت بعضهم عن تفسيرها...