روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (16)

{ يَوْمَ هُم بارزون } بدل من { يَوْمَ التلاق } [ غافر : 15 ] و { هُمْ } مبتدأ و { بارزون } خبر والجملة في محل جر بإضافة { يَوْمٍ } إليها ، وقيل : وهذا تخريج على مذهب أبي الحسن من جواز إضافة الظرف المستقبل كاذا إلى الجملة الاسمية نحو اجيئك إذا زيد ذاهب ، وسيبويه لا يجوز ذلك ويوجب تقدير فعل بعد الظرف يكون الاسم مرتفعاً به ، وجوز أن يكون { يَوْمٍ } ظرفاً لقوله تعالى : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء } والظاهر البدلية ، وهذه الجملة استئناف لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه بعض المتوهمين في الدنيا من الاستتار توهماً باطلاً ، وجوز أن تكون خبراً ثانياً لهم .

وقيل : هي حال من ضمير { بارزون } و { يَوْمَ التلاق } يوم القيامة سمي بذلك قال ابن عباس : لالتلقاء الخلائق فيه ، وقال مقاتل : للالتقاء الخالق والمخلوق فيه . وحكاه الطبرسي عن ابن عباس ، وقال السدي : لالتقاء أهل السماء وأهل الأرض ؛ وقال ميمون بن مهران : لالتقاء الظالم والمظلوم ، وحكى الثعلبي أن ذلك لالتقاء كل امرء وعمله ، واختار بعض الأجلة ما قال مقاتل وقال : هو أولى الوجوه لما فيه من حل المطلق على ما ورد في كثير من المواضع نحو { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء لَهُ } [ الكهف : 110 ] { إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } [ يونس : 7 ] { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } [ الفرقان : 21 ] ) .

وقال «صاحب الكشف » : القول الأول وهو ما نقل عن ابن عباس أولا أشبه لجريان الكلام فيه على الحقيقة ونفي ما يتوهم من المساواة بين الخالق والمخلوق واستقلال كل من البدلين بفائدة التهويل لما في الأول من تصوير تلاقي الخلائق على اختلاف أنواعها ، وفي الثاني من البروز لمالك أمرها بروزاً لا يبقى لأحد فيه شبهة .

وأما نحو قوله تعالى : { لِقَاء رَبّهِ } فمسوق بمعنى آخر ، و { بارزون } من برز وأصله حصل في براز أي فضاء ، والمراد ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض يومئذٍ قاع صفصف وليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في «الصحيحين » عن ابن عباس " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً " وقيل : المراد خارجون من قبورهم أو ظاهرة أعمالهم وسرائرهم ، وقيل : ظاهرة نفوسهم لا تحجب بغواشي الأبدان مع تعلقها بها ، ولا يقبل هذا بدون ثبت من المعصوم ، والمراد بقوله تعالى : { مِنْهُمْ } على ما قيل : من أحوالهم وأعمالهم . وقيل : من أعيانهم ، واختير التعميم أي لا يخفى عليه عز شأنه شيء ما من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة .

وقرأ أبي { لِيُنذِرَ يَوْمَ } ببناء ينذر للفاعل ورفع يوم على الفاعلية مجازاً .

وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح { لّيُنذِرَ } مبنياً للمفعول { يَوْمٍ } بالرفع على النيابة عن الفاعل . وقرأ الحسن . واليماني فيما ذكر ابن خالويه { لّتُنذِرَ } بالتاء الفوقية فقيل : الفاعل فيه ضمير الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيل : ضمير الروح لأنها تؤنث ؛ وقوله تعالى : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } حكاية لما يسئل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به بتقدير قول معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جواباً عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل : فما يكون حينئذٍ ؟ فقيل : يقال : { لّمَنِ الملك } الخ

ومن باب الإشارة : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] إذ ليس في الدار غيره ديار

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (16)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر ذلك اليوم، فقال: {يوم هم بارزون} من قبورهم على ظهر الأرض مثل الأديم الممدود.

{لا يخفى على الله منهم شيء}: لا يستتر عن الله عز وجل منهم أحد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بقوله "يَوْمَ هُمْ بارزُونَ "يعني المنذَرين الذين أرسل الله إليهم رسله لينذروهم وهم ظاهرون يعني للناظرين لا يحول بينهم وبينهم جبل ولا شجر، ولا يستر بعضهم عن بعض ساتر، ولكنهم بقاعٍ صفصف لا أَمْتَ فيه ولا عوج...

وقوله: "لا يَخْفَى على اللّهِ مِنْهُمْ" أي: ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا شَيْءٌ.

وقوله: "لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ" يعني بذلك: يقول الربّ: لمن الملك اليوم وترك ذكر «يقول» استغناء بدلالة الكلام عليه.

وقوله: "لِلّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ" وقد ذكرنا الرواية الواردة بذلك فيما مضى قبل ومعنى الكلام: يقول الربّ: لمن السلطان اليوم؟ وذلك يوم القيامة، فيجيب نفسه فيقول: "لِلّهِ الوَاحِدِ" الذي لا مثل له ولا شبيه، "القَهّارِ" لكلّ شيء سواه بقدرته، الغالب بعزّته.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

{لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} لقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم، لا ذلك اليوم على الخصوص، ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم، فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفهم الكشف، فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى، فإنه أصل أسباب الهلاك (نفسه: 4/95)...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شيء} بيان وتقرير لبروزهم، والله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء برزوا أو لم يبرزوا، فما معناه؟ قلت: معناه أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب: أنّ الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه. قال الله تعالى: {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون} [فصلت: 22].

{لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} قيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يُعْصَ اللهُ فيها قط «فأوّل ما يتكلم به أن ينادي منادٍ:"لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس" الآية. فهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

كم عدد الصفات التي وصف بها يوم القيامة في هذه الآية، فنقول:

الصفة الأولى: كونه يوم التلاق.

الصفة الثانية: قوله {يوم هم بارزون} وفي تفسير هذا البروز وجوه:

الأول: أنهم برزوا عن بواطن القبور.

الثاني: ليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث: «يحشرون عراة حفاة غرلا».

الصفة الثالثة: قوله {لا يخفى على الله منهم شيء} والمراد يوم لا يخفى على الله منهم شيء، والمقصود منه الوعيد.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يومئذ يتضاءل المتكبرون، وينزوي المتجبرون، ويقف الوجود كله خاشعاً، والعباد كلهم خضعاً، ويتفرد مالك الملك الواحد القهار بالسلطان. وهو سبحانه متفرد به في كل آن. فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعيان، بعد انكشافه للجنان. ويعلم هذا كل منكر ويستشعره كل متكبر. وتصمت كل نأمة وتسكن كل حركة...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{يَوْمَ هُم بارزون} بدل من {يَوْمَ التَّلاَقي}. و {هم بارزون} جملة اسمية، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير.

وضمير الغيبة عائد إلى {الكافِرُونَ} من قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}.

وجملة {لا يَخْفَى على الله منهم شيءٌ} بيان لجملة {هُم بارزون} والمعنى: أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم: {مِنْهم شَيءٌ}.

وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصْرح لبعد معاده بما عقبه من قوله: {على مَن يَشَاءُ من عِبادهِ} ولأن الأظهر أن ضمير {ليُنذِر} عائد إلى {مَن يَشَاء}.

ومعنى {مِنهُم} من مجموعهم، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإِجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام، وأوثر أيضاً لفظ {شَيْءٌ} لتوغله في العموم، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد، أو لا يخفى على الله من أحدٍ شيءٌ، أي من أجزاء جسمه، فالمعنى: لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها.

{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار}

مقول لقول محذوف، وحذف القول من حديث البحر. والتقدير: يقول الله لمن الملك اليوم، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال، أو استئناف بياني جواباً عن سؤال سائل عماذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله.

والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من مُلك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء.

ويجوز أيضاً أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب؛ لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاماً يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجوابُ عند سماعه فَضْلَ تمكُّن، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير، وقريب منه: {وإذَا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دَعان} [البقرة: 186].

و {اليوم} المعرف باللام هو اليوم الحاضر، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا عُرِّفت باللام.

وذكر الصفتين {الواحد القَهَّار} دون غيرهما من الصفات العُلَى؛ لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ} حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميعَ الطغاة والجبارين.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(لمن الملك اليوم)؟

يأتي الجواب: (لله الواحد القهار).

مَن الذي يطرح السؤال، وَ مَن الذي يجيب عليه؟

الآية لا تتحدّث عن ذلك، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد.

ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق، الملائكة والإنسان، المؤمن والكافر، تطرحه جميع ذرات الوجود، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحة.

فلو أصخت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود، لسمعتها تقول: (لمن الملك) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول: (لله الواحد القهّار).

في هذا اليوم أيضاً تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء، وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين، ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى، ولا نرى أثراً لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس و الجن.