{ إِن تَتُوبَا إلى الله } خطاب لحفصة . وعائشة رضي الله تعالى عنهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب أولاً بعيداً عن ساحة الحضور ، ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد ، وكون الخطاب لهما لما أخرج أحمد . والبخاري . ومسلم . والترمذي . وابن حبان . وغيره عن ابن عباس قال : لم أزل حريصاً أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِن تَتُوبَا } الخ حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فنزل ثم أني صببت على يديه فتوضأ فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى : { إِن تَتُوبَا } الخ ؟ فقال : واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة . وحفصة ثم أنشأ يحدثني الحديث الحديث بطوله ؛ ومعنى قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } مالت عن الواجب من مخالفته صلى الله عليه وسلم بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه إلى مخالفته ، والجملة قائمة مقام جواب الشرط بعد حذفه ، والتقدير إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } أو فحق لكما ذلك فقد صدر ما يقتضيها وهو على معنى فقد ظهر أن ذلك حق كما قيل في قوله
: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة ، وجعلها ابن الحاجب جواباً من حيث الإعلام كما قيل في : إن تكرمني اليوم فقد أكرمتك أمس ، وقيل : الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما ، وقوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ } الخ بيان لسبب التوبة ، وقيل : التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما ، وما ذكر دليل على ذلك قيل : وإنما لم يفسروا { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } بمالت إلى الواجب . أو الحق . أو الخير حتى يصح جعله جواباً من غير احتياج إلى نحو ما تقدم لأن صيغة الماضي وقد وقراءة ابن مسعود فقد زاغت قلوبكما وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف ، وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مالك من أن الجواب يكون ماضياً وإن لم يكن لفظ كان ، وفيه نظر ، والجمع في { قُلُوبُكُمَا } دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد ، وهو في مثل ذلك أكثر استعمالاً من التثنية والإفراد ، قال أبو حيان : لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله
: حمامة بطن الواديين ترنمي *** وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في «التسهيل » : ويختار لفظ الأفراد على لفظ التثنية { وَأَنْ تظاهرا عَلَيْهِ } بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء ، وهي قراءة عاصم . ونافع في رواية ، وطلحة . والحسن . وأبو رجاء ، وقرأ الجمهور تظاهراً بتشديد الظاء ، وأصله تتظاهرا فأدغمت التاء في الظاء ، وبالأصل قرأ عكرمة ، وقرأ أبو عمرو في رواية أخرى تظهرا بتشديد الظاء والهاء دون ألف ، والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره .
{ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه } أي ناصره ؛ والوقف على ما في «البحر » . وغيره هنا أحسن ، وجعلوا قوله تعالى : { وَجِبْرِيلُ } مبتدأ ، وقوله سبحانه : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ والملائكة } معطوفاً عليه ، وقوله عز وجل : { بَعْدَ ذَلِكَ } أي بعد نصرة الله تعالى متعلقاً بقوله جل شأنه : { ظَهِيرٍ } وجعلوه الخبر عن الجميع ، وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون ، واختير الافراد لجعلهم كشيء واحد ، وجوز أن يكون خبراً عن { جبريل } وخبر ما بعده مقدر نظير ما قالوا في قوله
: ومن يك أمسي بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب
وجوز أن يكون الوقف على { جبريل } أي { مولاه وَجِبْرِيلُ } مولاه { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } مبتدأ ، وما بعده معطوف عليه ، والخبر { ظَهِيرٍ } ، وظاهر كلام الكشاف اختيار الوقف على { المؤمنين } فظهير خبر الملائك ، وعليه غالب مختصريه ، وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبراً وهو إما لفظ مولى مراداً به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي { وَجِبْرِيلُ } مواه أي قرينه { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } مولاه أي تابعه ، أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه ، ولا مانع من أن يكون المولى في الجميع بمعنى الناصر كما لا يخفي ، وزيادة { هُوَ } على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز وجل متولى ذلك بذاته تعالى ، وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء ، وأنه للتقوى لا للحصر ، والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح ، وإن كان كلام السكاكي موهماً الوجوب ؛ هذا والمبالغة محققة على ما نص عليه سيبويه وحقق في الأصول ، وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون { وَجِبْرِيلُ } وما بعده مخبراً عنه بظهير وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتنع على نحو زيد المنطلق . وعمرو ، كذا في «الكشف » ، ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأس الكروبيين ، والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير ، وأريد به الجمع هنا ، ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر ، ولذا عم بالإضافة ، وجوز أن يكون اللفظ جمعاً ، وكان القياس أن يكتب وصالحوا بالواو إلا أنها حذفت خطاً تبعاً لحذفها لفظاً ، وقد جاءت أشياء في المصحف تبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو { ويدع الإنسان } [ الاسراء : 11 ] . { ويدع الداع } [ القمر : 6 ] . و { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم } [ ص : 21 ] إلى غير ذلك ، وذهب غير واحد إلى أن الإضافة للعهد فقيل : المراد به الأنبياء عليهم السلام .
وروى عن ابن زيد . وقتادة . والعلا بن زياد ، ومظاهرتهم له قيل : تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبي من الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه ؛ وقيل : علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه ابن مردويه . وابن عساكر عن ابن عباس ، وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ؛ { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } علي بن أبي طالب ؛ وروى الإمامية عن أبي جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال : يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين .
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال : هو عمر بن الخطاب ، وأخرج هو . وجماعة عن سعيد بن جبير قال : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } نزل في عمر بن الخطاب خاصة ، وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر . وعمر . وعلي رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : الخلفاء الأربعة .
وأخرج الطبراني في «الأوسط » . وابن مردويه عن ابن عمر . وابن عباس قالا : نزلت { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } في أبي بكر . وعمر ، وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة . وميمون بن مهران . وغيرهما ، وأخرج الحاكم عن أبي أمامة . والطبراني . وابن مردويه . وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر . وعمر ، وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أبي يقرؤها { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر . وعمر ، ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وأن جبريل عليه السلام ظهير له صلى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهاية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيراً في قلوب بنيتهما وتوهيناً لأمرهما .
وأنا أقول العموم أولى ، وهما وكذا علي كرم الله تعالى وجهه يدخلان دخولاً أولياً ، والتنصيص على بعض في الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكتة اقتضت ذلك لا لإرادة الحصر ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك : من صالح المؤمنين أبو بكر . وعمر ، وفائدة { بَعْدَ ذَلِكَ } التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز وجل وإن تنوعت ، ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة وفيهم جبريل أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده .
وقيل : الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها ، وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم ، وبالجملة فائدة { بَعْدَ ذَلِكَ } نحو فائدة ثم في قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن «البحر » بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز وجل ، وأياً ما كان فإن شرطية وتظاهرا فعل الشرط ، والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب ، وسبب أقيم مقامه ، والأصل فإن تظاهرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه ، وجوز أن تكون هي بنفسه الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك ، وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طعمهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وعند المؤمنين لأمومتهما لهم وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهما يجديهما نفعاً .
وقيل : المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه ، وفيه أيضاً مزيد إغاظة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل : فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه { وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ والملائكة بَعْدَ ذلك } مظاهرون له ومعينون إياه كذلك ، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث لم يقل ظهير له عليكما مثلاً ، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص صالح المؤمنين بالذكر ، وتقوى هذه الملاءمة على ما روى عن ابن جبير من تفسير صالح المؤمنين بمن بريء من النفاق فتأمل .
[ وقوله : ] { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، كانتا سببًا لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما يحبه ، فعرض الله عليهما التوبة ، وعاتبهما على ذلك ، وأخبرهما أن قلوبهما{[1157]} قد صغت أي : مالت وانحرفت عما ينبغي لهن ، من الورع والأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، واحترامه ، وأن لا يشققن عليه ، { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } أي : تعاونا{[1158]} على ما يشق عليه ، ويستمر هذا الأمر منكن ، { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } أي : الجميع أعوان للرسول ، مظاهرون ، ومن كان هؤلاء أعوانه{[1159]} فهو المنصور ، وغيره ممن يناوئه مخذول{[1160]} وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين ، حيث جعل الباري نفسه [ الكريمة ] ، وخواص خلقه ، أعوانًا لهذا الرسول الكريم .
قوله : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } المراد بذلك حفصة وعائشة ، إذ يحثهما الله على التوبة مما كان منهما من ميل إلى خلاف ما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله { فقد صغت قلوبكما } أي مالت أوزاغت عن الحق والاستقامة . فقد سرهما أن يحرم النبي على نفسه ما أحله له ، وهي أم ولده مارية القبطية أو اجتناب العسل .
قوله : { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } يعني إن تتظاهرا و تتعاضدا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء وإفشاء السر { فإن الله هو مولاه } أي ناصره ومؤيده فلا يصيبه شيء من تظاهركما وتعاونكما عليه . وكذلك يظاهره ويؤيده جبريل عظيم الملائكة ، والصالحون من المؤمنين { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي أن الملائكة بعد تأييد الله له وتأييد جبريل وصالح المؤمنين أعوان له يظاهرونه ويؤيدونه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن تتوبا إلى الله} يعني حفصة وعائشة {فقد صغت قلوبكما} يعني مالت قلوبكما {وإن تظاهرا عليه} يعني تعاونتما على معصية النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه {فإن الله هو مولاه} يعني وليه {وجبريل} صلى الله عليه وسلم {وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} آية للنبي صلى الله عليه وسلم يعني أعوانا للنبي صلى الله عليه وسلم عليكما إن تظاهرتما عليه فلما نزلت هذه الآية هم النبي صلى الله عليه وسلم بطلاق حفصة حين أبدأت عليه. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لو علم الله في آل عمر خيرا ما طلقت حفصة، فنزل جبريل على النبي، صلى الله عليهما، فقال لا تطلقها: فإنها صوامة قوامة وهي من نسائك في الجنة، فأمسكها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن تتوبا إلى الله أيتها المرأتان فقد مالت قلوبكما إلى محبة ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتنابه جاريته، وتحريمها على نفسه، أو تحريم ما كان له حلالاً مما حرّمه على نفسه بسبب حفصة... عن ابن عباس، قوله: طإنْ تَتُوبا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما" يقول: زاغت قلوبكما، يقول: قد أثمت قلوبكما...
قال: ابن زيد، قال الله عزّ وجلّ: "إنْ تَتُوبا إلى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبَكُما" قال: سرهما أن يجتنب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته، وذلك لهما موافق صَغَتْ قُلُوبَكُما إلى أن سرّهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ" يقول تعالى ذكره للتي أسّر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، والتي أفشت إليها حديثه، وهما عائشة وحفصة رضي الله عنهما...
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: حدثنا عمر بن يونس، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا سماك أبو زميل، قال: ثني عبد الله بن عباس، قال: ثني عمر بن الخطاب، قال: لما اعتزل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نساءه، دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله ما شقّ عليك من شأن النساء، فلئن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته، وجبرائيل وميكائيل، وأنا وأبو بكر معك، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام، إلا رجوت أن يكون الله مصدّق قولي، فنزلت هذه الآية، آية التخيير: "عَسَى رَبّهُ إنْ طَلّقَكُنّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجا خَيْرا مِنْكُنّ، وَإنْ تَظاهَرَا عَلَيْهِ فإنّ اللّهَ هُوَ مُوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ" الآية، وكانت عائشة ابنة أبي بكر وحفصة تتظاهران على سائر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[عن] الضحاك يقول في قوله: "وَإنْ تَظَاهَرَ عَلَيْهِ" يقول: على معصية النبيّ صلى الله عليه وسلم وأذاه...
وقوله: "فإنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ" يقول: فإن الله هو وليه وناصره، وصالح المؤمنين، وخيار المؤمنين أيضا مولاه وناصره.
وقيل: عني بصالح المؤمنين في هذا الموضع: أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما...
وقال آخرون: عُنِي بصالح المؤمنين: الأنبياء صلوات الله عليهم... والصواب من القول في ذلك عندي: أن قوله: "وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ" وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى الجميع...
وقوله: "وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلكَ ظَهِيرٌ" يقول: والملائكة مع جبريل وصالح المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعوان على من آذاه، وأراد مساءته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} في هذه الآية دلالة أن الحديث الذي أفشي كان بين زوجتين لقوله: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}... {فقد صغت قلوبكما} أي مالت عن الحق الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليكما، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم حق التعظيم، يرد فيه العتاب بأدنى تقصير...
{فإن الله هو مولاه} حق هذا أن نقف عليه، ثم نقول: {وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا} حتى لا يتوهم أن غير الله مولاه. ثم ذكر هذا أبلغ في التهويل، وإلا كان من هؤلاء المذكورين يكفي لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك في ذكر عقوبتهن، إذا وجد منهن الخلاف... {وصالح المؤمنين} هم الذين يقومون بالمعونات في أمر الدين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والملائكة} على تكاثر عددهم، وامتلاء السموات من جموعهم {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين {ظَهِيرٌ} فوج مظاهر له، كأنهم يد واحدة على من يعاديه، فما يبلغ تظاهر امرأتين علي من هؤلاء ظهراؤه؟ فإن قلت: قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} تعظيم للملائكة ومظاهرتهم. وقد تقدّمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله تعالى أعظم وأعظم. قلت: مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، فكأنه فضل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى، لفضلهم على جميع خلقه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المولى: الناصر المعين... {وجبريل وصالح المؤمنين} يحتمل أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى في قوله: {هو}، فيكون {جبريل وصالح المؤمنين} في الولاية، ويحتمل أن يكون {جبريل} رفعاً بالابتداء، وما بعده عطف عليه، و {ظهير} الخبر فيكون حينئذ من الظهراء لا في الولاية ويختص بأنه مولى الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن تتوبا} أي يا عائشة ويا حفصة مما صنعته حفصة بالإفشاء وعائشة بالاحتيال على المنع من شرب العسل والتحليف على مارية {إلى الله} أي الملك الذي أحاط علمه فجلت قدرته ولطف بهما لأجله صلى الله عليه وسلم غاية اللطف في قوله: {فقد صغت} أي مالت وغاضت بما صاغت {قلوبكما} وفي جمع القلوب جمع كثرة تأكيد لما فهمته من ميل القلب بكثرة المعارف بما أفادهما إظهار هذا السر والعتاب عليه من الحياء، فصارتا جديرتين بالمبادرة إلى التوبة متأهلتين لذلك غاية التأهل...
. {وإن تظاهرا} بالتشديد للإدغام في قراءة الجماعة لأن التظهر هنا إن وقع كان على وجه الخفاء في أعمال الحيلة في أمر مارية رضي الله عنها والعسل وما يأتي من مثل ذلك ما يبعث عليه الغيرة {عليه} أي النبي صلى الله عليه وسلم المنبأ من قبل الله بما يرفع قدره ويعلي ذكره...
{فإن الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له {هو} أي بنفسه الأقدس وحضرة غيب غيبه التي لا يقوم لما لها من العظمة شيء {مولاه} أي ناصره والمتولي من أمره ما يتولاه القريب الصديق القادر...
{وجبريل} لأنه من أعظم الأسباب التي يقيمها الله سبحانه...
{وصالح المؤمنين} أي الراسخين في رتبة الإيمان والصلاح من الإنس والجن وأبواهما رضي الله عنهما أعظم مراد بهذا...
{والملائكة} أي كلهم ومنهم جبريل عليهم الصلاة والسلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات إظهاراً لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم...
{بعد ذلك} أي الأمر العظيم الذي تقدم ذكره وهو مظاهرة الله ومن ذكر معه {ظهير} أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة في المظاهرة، فخوف بهذا كله لأجل المتاب لطفاً به صلى الله عليه وسلم وإظهاراً لعظمته وفي قصة صاحب ياسين قال {وما أنزلنا على قومه} الآية، تحقيراً لقومه وإهانة لهم، ويجوز أن يكون "ظهير " خبر جبريل عليه الصلاة والسلام، وخبر ما بعده محذوف لدلالته عليه أي كذلك...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} وتَظهرا أي تتعاونَا عليهِ بما يسوؤه من الإفراطِ في الغيرةِ وإفشاءِ سرِّه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح المُؤْمِنِينَ}...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فكأنه قيل: فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره، فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه {وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ والملائكة بَعْدَ ذلك} مظاهرون له ومعينون إياه كذلك، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث لم يقل ظهير له عليكما مثلاً، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص صالح المؤمنين بالذكر، وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن ابن جبير من تفسير صالح المؤمنين بمن بريء من النفاق فتأمل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الخطاب للزوجتين الكريمتين من أزواجه صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة رضي الله عنهما، كانتا سببًا لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ما يحبه، فعرض الله عليهما التوبة، وعاتبهما على ذلك، وأخبرهما أن قلوبهما قد صغت أي: مالت وانحرفت عما ينبغي لهن، من الورع والأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، واحترامه، وأن لا يشققن عليه، {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي: تعاونا على ما يشق عليه، ويستمر هذا الأمر منكن، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي: الجميع أعوان للرسول، مظاهرون، ومن كان هؤلاء أعوانه فهو المنصور، وغيره ممن يناوئه مخذول وفي هذا أكبر فضيلة وشرف لسيد المرسلين، حيث جعل الباري نفسه [الكريمة]، وخواص خلقه، أعوانًا لهذا الرسول الكريم. وهذا فيه من التحذير للزوجتين الكريمتين ما لا يخفى، ثم خوفهما أيضا، بحالة تشق على النساء غاية المشقة، وهو الطلاق، الذي هو أكبر شيء عليهن، فقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما. وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير).. وحين نتجاوز صدر الخطاب، ودعوتهما إلى التوبة لتعود قلوبهما فتميل إلى الله، فقد بعدت عنه بما كان منها.. حين نتجاوز هذه الدعوة إلى التوبة نجد حملة ضخمة هائلة وتهديدا رعيبا مخيفا.. ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى احتاج الأمر إلى إعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين. والملائكة بعد ذلك ظهير! ليطيب خاطر الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويحس بالطمأنينة والراحة من ذلك الأمر الخطير! ولا بد أن الموقف في حس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وفي محيطه كان من الضخامة والعمق والتأثير إلى الحد الذي يتناسب مع هذه الحملة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفيه إيماء إلى أن فيما فعَلَتَاه انحرافاً عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما...
{وإن تظّاهرا عليه} هو ضد {إن تتوبا} أي وإن تصرّا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه الخ...
والمظاهرة: التعاون... وضمير الفصل في قوله: {هو مولاه} يفيد القصر على تقدير حصول الشرط، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما... وفائدة ذكر الملائكة بعد ذكر تأييد الله وجبريل وصالح والمؤمنين أن المذكورين قبلهم ظاهره آثار تأييدهم بوحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل ونصره إياه بواسطة المؤمنين فنبه الله المرأتين على تأييد آخر غيرِ ظاهرة آثاره وهو تأييد الملائكة بالنصر في يوم بدر وغير النصر من الاستغفار في السماوات...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في هذه الآية الكريمة إنذار صريح بعاقبة التجني على رسوله الأمين، واشتباك في الحرب مع الله والملائكة والمؤمنين، وفي خلال هذه الآيات البينات وجه كتاب الله الخطاب مباشرة إلى الزوجتين اللتين كان لهما أثر في إثارة هذا الحادث، يدعوهما من الآن فصاعدا إلى تجنب فلتات اللسان، والتحفظ في كل ما ينبغي فيه التحفظ والكتمان، حفظا لذات البين بين جميع أمهات المؤمنين، عليهن الرحمة والرضوان، فقال تعالى مشعرا لهما بوجوب المبادرة إلى التوبة مما فرط منهما في حق الرسول عليه السلام، وداعيا لهما إلى الاعتصام بحسن الظن وصفاء السريرة على الدوام: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}...