قوله : { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } .
أحدهما : هو قوله : { فَقَدْ صَغَتْ } .
والمعنى : إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التَّوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه .
و «صَغَتْ » مالت وزاغت عن الحق .
ويدل له{[57185]} قراءة ابن مسعود : «فقد زاغت » .
قال القرطبيُّ{[57186]} : «وليس قوله { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } جزاء للشرط ؛ لأن هذا الصغو كان سابقاً ، فجواب الشرط محذوف للعلم به ، أي : إن تتوبا كان خيراً لكما ؛ إذ قد صغت قلوبكما » .
والثاني : أن الجواب محذوف ، وتقديره : فذلك واجب عليكما ، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء{[57187]} ، ودلّ على المحذوف { فَقَدْ صَغَتْ } ؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب .
قال شهاب الدين{[57188]} : «وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب ، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً » .
وقوله : { قُلُوبُكُمَا } من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل : «قَلبَاكُمَا » ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما ؛ لأنه لا يشكل . وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة{[57189]} .
ومن مجيء التثنية قوله : [ الكامل ]
4786 - فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوافِذٍ*** كنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَع{[57190]}
والأحسن في هذا الباب الجمع ، ثم الإفراد ، ثم التثنية .
وقال ابن عصفور ، لا يجوز الإفراد إلاَّ في ضرورة ؛ كقوله : [ الطويل ]
4787 - حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِي*** سَقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطيرهَا{[57191]}
وتبعه أبو حيان{[57192]} ، وغلط ابن مالك في كونه جعلهُ أحسن من التثنية .
وليس بغلط لكراهةِ توالي تثنيتين مع أمن اللبس .
وقوله : «إنْ تَتُوبَا » فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب .
المراد بهذا الخطاب أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين : عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما } أي : زاغت ومالت عن الحق ، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسلِ ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنِّساء .
قال ابن زيد رضي الله عنه مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده ، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم{[57193]} .
وقيل : فقد مالتْ قُلوبكُمَا إلى التوبة .
أصله : «تَتَظاهَرَا » فأدغم ، وهذه قراءة العامة .
وقرأ عكرمة{[57194]} : «تَتَظَاهَرَا » على الأصل .
والحسن وأبو رجاء ، ونافع ، وعاصم{[57195]} في رواية عنهما : بتشديد الظَّاء والهاء دون ألف ، وكلها بمعنى المعاونةِ من الظهر ؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها .
معنى تتظاهرا ، أي : تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء .
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مكثت سنةً ، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه ، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له ، فوقفت ، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضَّأ ، فلما رجع قلت : يا أمير المؤمنين ، من اللَّتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة ، فما أستطيع هيبةً لك ، قال : فلا تفعل ، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك{[57196]} . وذكر الحديث .
قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } .
يجوز أن يكون «هو » فصلاً ، و «مَولاهُ » خبره والمبتدأ جملة «إنَّ » .
والمعنى : الله وليُّه وناصره ، فلا يضره ذلك التَّظاهر منهما .
يجوز أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى .
والمعنى : الله وليه ، وجبريل وليه ، فلا يوقف على «مَولاهُ » ويوقف على جبريل .
ويكون { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } مبتدأ ، «والملائكة » معطوفاً عليه ، والخبر «ظَهِيرٌ » ورفع «جبريل » نظراً إلى محل اسم «إن » وذلك بعد استكمال خبرها وقد تقدم مذاهب الناس في ذلك .
ويكون «جِبْريلٌ » وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون «جبريل » ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة .
ويكون «الملائكةُ » مبتدأ ، و «ظهيرٌ » خبره ، وأفرد لأنه بزنة «فَعِيل » .
قال القرطبيُّ{[57197]} : «هو بمعنى الجمع » .
قال أبو علي : قد جاء «فعيل » للكثرة ، قال تعالى : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 11 ] . ومعنى : «ظهيرٌ » أي : أعوان ، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً }[ النساء : 69 ] .
ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله «مَولاهُ » ، ويكون «جبريلُ » مبتدأ ، وما بعده عطف عليه ، و «ظهيرٌ » خبر الجميع ، فتختص الولاية بالله ، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين ، مرة بالتنصيصِ عليه ، ومرة بدخوله في عموم الملائكةِ .
وهذا عكس ما في «البقرة » في قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ }[ البقرة : 98 ] ، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له ، وهناك ذكر العام بعد الخاص ، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول .
وفي «جِبْريل » لغات تقدم ذكرها في «البقرة » .
قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
قال المسيِّبُ بن شريكٍ : { وَصاَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر{[57198]} .
وقال سعيد بن جبيرٍ : هو عمر{[57199]} .
وقال عكرمة : أبو بكر وعمر{[57200]} .
وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «{ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } : أبو بكر وعمر »{[57201]} .
وعن أسماء بنت عميسٍ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «{ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنينَ } : علي بن أبي طالب »{[57202]} .
وقيل : خيار المؤمنين ، و «صالح » : اسم جنس ، كقوله تعالى : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ }[ العصر : 1 ، 2 ] . قاله الطبريُّ .
وقال العلاءُ بنُ زياد ، وقتادة ، وسفيان : هم الأنبياء{[57203]} .
وقال ابن زيد : هم الملائكة{[57204]} .
وقال السديُّ : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم{[57205]} .
وقيل : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } ليس لفظ الواحدِ ، وإنما هم «صَالِحُو المُؤمِنينَ » فأضاف الصالحين إلى المؤمنين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
قيل : كان التَّظاهر منهما في التحكيم على النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة ، ولهذا آلى منهن شهراً واعتزلهن .
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال : «دخل أبو بكرٍ يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد النَّاس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثُمَّ أقبل عمرُ ، فاستأذن ، فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه ، واجماً ساكتاً ، قال : فلأقولن شيئاً أضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة ، فقمت إليها ، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " هَنُّ حَولِي كما تَرَى يَسْألنَنِي النَّفقَة " فقام أبو بكر إلى عائشة رضي الله عنها يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ، فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده ، ثم اعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، أو تسعاً وعشرين ، ثم نزلت عليه : { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }[ الأحزاب : 29 ] » الحديث{[57206]} .
قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
الظَّاهر أنه مفرد ، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع .
وجوزوا أن يكون جمعاً - بالواو والنون - حذفت النون للإضافة ، وكتب دون واو اعتباراً بلفظه ، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين ، نحو : { وَيَمْحُ الله الباطل }[ الشورى : 24 ] . و { يَدْعُ الداع }[ القمر : 6 ] ، و{ سَنَدْعُ الزبانية }[ العلق : 18 ] ، إلى غير ذلك .
ومثل هذا ما جاء في الحديث : «أهْلُ القُرآنِ أهْلُ اللَّه وخاصَّتهُ » .
قالوا : يجوز أن يكون مفرداً ، وأن يكون جمعاً ، كقوله : { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا }[ الفتح : 11 ] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظاً .
فإذا كتب هذا ، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض ، وليس ثمَّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخطِ .
وجوز أبو البقاء{[57207]} في «جبريل » أن يكون معطوفاً على الضمير في «مولاهُ » ، يعني المستتر ، وحينئذٍ يكون الفصل بالضمير المجرور كافياً في تجويز العطف عليه .
وجوز أيضاً : أن يكون «جبريل » مبتدأ ، و «صالحُ » عطف عليه ، فالخبرُ محذوفٌ ، أي : مواليه .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد بقوله «وصَالحُ المؤمنين » يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه ، وناصرين له{[57208]} : وهو قول المقاتلين .
وقال الضحاكُ : خيار المؤمنين{[57209]} .
وقيل : كل من آمن وعمل صالحاً .