الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

أما قوله تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه } .

أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فقد صغت قلوبكما } قال : مالت وأثمت .

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { صغت } قال : مالت .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { صغت } قال : مالت .

وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : كنا نرى أن { صغت قلوبكما } شيء هين حتى سمعناه بقراءة عبدالله أن تتوبا إلى الله { فقد صغت قلوبكما } .

وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وأحمد والعدني وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن حبان وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لم أزل حريصاً أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه ، بالإِداوة فتبرز ثم أتى فصببت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } فقال : واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ، ثم أنشأ يحدثني الحديث ، فقال : كنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر من ذلك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، قلت : قد خابت من فعلت ذلك منهن وخسرت ، قال : وكان منزلي بالعوالي ، وكان لي جار من الأنصار كنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينزل يوماً فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وأنزل يوماً فآتيه بمثل ذلك . قال : وكنا نحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا ، فجاء يوماً فضرب على الباب فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم ، فقلت : أجاءت غسان ؟ قال : أعظم من ذلك ، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، قلت في نفسي : قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أرى ذلك كائناً ، فلما صلينا الصبح شددت عليَّ ثيابي ، ثم انطلقت حتى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : لا أدري هوذا معتزل في المشربة . فانطلقت فأتيت غلاماً أسوداً فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ثم خرج إليَّ فقال : قد ذكرتك له فلم يقل شيئاً ، فانطلقت إلى المسجد ، فإذا حول المسجد نفر يبكون ، فجلست إليهم ، ثم غلبني ما أجد ، فانطلقت فأتيت الغلام ، فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ثم خرج ، فقال : قد ذكرتك له فلم يقل شيئاً ، فوليت منطلقاً فإذا الغلام يدعوني ، فقال : أدخل فقد أذن لك فدخلت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم متكئ على حصير قد رأيت أثره في جنبه ، فقلت : يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ قال : لا قلت : الله أكبر ، لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت يوماً على امرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت ذلك فقالت : ما تنكر فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خابت من فعل ذلك منهن ، فدخلت على حفصة ، فقلت : أتراجع إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم إلى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : قد خابت من فعلت ذلك منكن وخسرت ، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فإذا هي قد هلكت ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لحفصة : لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك أوسم منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتبسم أخرى ، فقلت يا رسول الله : استأنس قال : نعم . فرفعت رأسي فما رأيت في البيت إلا أهبة ثلاثة فقلت : يا رسول الله أدع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالساً وقال : أو في شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ، وكان قد أقسم أن لا يدخل على نسائه شهراً فعاتبه الله في ذلك ، وجعل له كفارة اليمين .

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالاً وجعل في اليمين كفارة .

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم ، فأما الحرام فأحله الله له ، وأما الإِيلاء فأمره بكفارة اليمين .

وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ { وإن تظاهرا عليه } خفيفة { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله } خفيفة مرفوعة الياء { سائحات } خفيفة الألف .

وأخرج عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد ، فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب ، فقلت : لأعلمن ذلك اليوم ، فدخلت على عائشة فقلت يا بنت أبي بكر ، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ما لي ولك يا ابن الخطاب . فدخلت على حفصة فقلت لها يا حفصة ، أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ، ولولا أنا لطلقك رسول الله ، فبكت أشد البكاء ، فقلت لها : أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : هو في خزانته في المشربة . فدخلت ، فإذا أنا برباح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً على أسكفة المشربة مدلياً رجليه على نقير من خشب ، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر ، فناديت : يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئاً . فقلت يا رباح : استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر رباح إلى الغُرفة ثم نظر إليّ فلم يقل شيئاً ، ثم رفعت صوتي ، فقلت : يا رباح . استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها لأضربن عنقها ، ورفعت صوتي فأومأ إليّ بيده أن ارقه ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير فجلست فإذا عليه إزار ليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، ونظرت في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها من قرظ في ناحية الغرفة ، وإذا أفيق معلق فابتدرت عيناي ، فقال : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ فقلت يا نبي الله : وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ؟ وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار ، وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك ، قال : «يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟ » ، قلت : بلى ، ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب ، فقلت يا رسول الله : ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن ، فإن الله تعالى معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقوله ، ونزلت هذه الآية { عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } وكانت عائشة رضي الله عنها بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله : أطلقتهن ؟ قال : لا . قلت يا رسول الله : إني دخلت المسجد والمؤمنون ينكتون الحصى ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن ؟ قال : نعم إن شئت ، ثم لم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه ، وحتى كشر وضحك وكان من أحسن الناس ثغراً ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت أتشبث بالجذع ، ونزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده ، فقلت يا رسول الله : إنما كنت في الغرفة تسعاً وعشرين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشهر قد يكون تسعاً وعشرين ، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . قال : ونزلت هذه الآية { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير .

قوله تعالى : { وصالح المؤمنين } .

أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أبي يقرؤها { وصالح المؤمنين } أبو بكر وعمر .

وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما .

وأخرج ابن عساكر عن عكرمة وميمون بن مهران مثله .

وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري رضي الله عنه في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان رضي الله عنه في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم .

وأخرج ابن عساكر من طريق مالك بن أنس رضي الله عنه عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله : { فقد صغت قلوبكما } قال : مالت ، وفي قوله : { وصالح المؤمنين } قال : الأنبياء عليهم السلام .

وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وصالح المؤمنين } قال صلى الله عليه وسلم : «من صالح المؤمنين أبو بكر وعمر » رضي الله عنهما .

وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله : { وصالح المؤمنين } قال : «صالح المؤمنين أبو بكر وعمر » .

وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وصالح المؤمنين } قالا : نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن سعيد بن جبير في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : نزلت في عمر بن الخطاب خاصة .

وأخرج عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله : { وصالح المؤمنين } قال : صالح المؤمنين أبو بكر وعمر .

وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس في قوله : { وصالح المؤمنين } قالا : نزلت في أبي بكر وعمر .

وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن سعيد بن جبير في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : نزلت في عمر خاصة .

وأخرج الحاكم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : أبو بكر وعمر .

وأخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : «هو عليّ بن أبي طالب » .

وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { وصالح المؤمنين } قال : «عليّ بن أبي طالب » .

وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : هو عليّ بن أبي طالب .

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن العلاء بن زياد في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : الأنبياء عليهم السلام .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وصالح المؤمنين } قال : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .