الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَٰهَرَا عَلَيۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِيلُ وَصَٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} (4)

قوله : { إِن تَتُوبَآ } : شرطٌ وفي جوابِه وجهان ، أحدهما : هو قولُه " فقد صَغَتْ " والمعنى : إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِا يكرهه . وصَغَتْ : مالَتْ ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ " فقد راغَتْ " . والثاني : أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه : فذلك واجبٌ عليكما ، أو فتابَ اللَّهُ عليكما ، قاله أبو البقاء . وقال : " ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ " . وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه ، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً ؟ وغَفَلَ عن المعنى الذي ذكرْتُه في صحةِ كَوْنِه جواباً . و " قلوبُكما " مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمعَ موقعَ المثنى ، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل : قلباكما . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة ، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه . ومِنْ مجيءِ التثنيةِ قولُه :

فتخالَسا نَفْسَيْهما بنوافِذٍ *** كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ

والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ ، ثم الإِفرادُ ، ثم التثنيةُ ، وقال ابن عصفور : " لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة كقوله :

حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي *** سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها

وتبعه الشيخُ ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ . وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها ، وهي كراهةُ توالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس .

وقوله : { إِن تَتُوبَآ } فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبوَيْهما .

قوله : { وَإِن تَظَاهَرَا } أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ ، وهذه قراءة العامَّةِ ، وعكرمةُ " تتظاهرا " على الأصل ، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ " تظاهرا " بتخفيف الطاء والهاء ، حَذَفَ إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها .

قوله : { هُوَ مَوْلاَهُ } يجوزُ أَنْ يكونَ " هو " فصلاً ، و " مَوْلاه " الخبرَ ، وأن يكونَ مبتدأً ، و " مَوْلاه " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " إنَّ " .

قوله : { وَجِبْرِيلُ } يجوزُ أَنْ يكون عطفاً على اسمِ الله تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها ، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها ، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه ، ويكونَ " جبريلُ " وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ ، ويكونَ " الملائكة " مبتدأً و " ظهيرٌ " خبرَه ، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل . ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند قولِه : " مَوْلاه " ويكونُ " جبريل " مبتدأ ، وما بعده عَطْفٌ عليه .

و " ظهيرٌ " خبرُ الجميع ، فتختصُّ الولايةُ بالله ، ويكون " جبريل " قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين : مرةً بالتنصيصِ عليه ، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له ، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول .

وقوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } الظاهرُ أنه مفردٌ ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع . وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون ، حُذِفَتْ النونُ للإِضافة ، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو :

{ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } بالشورى : 24 ] و { يَدْعُ الدَّاعِ }

{ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [ العلق : 18 ] إلى غيرِ ذلك ، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ : " أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصَّتُه " قالوا : يجوز أن يكونَ مفرداً ، وأن يكونَ جمعاً كقولِه : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً ، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط .

وجَوَّزَ أبو البقاء في " جبريلُ " أن يكونَ معطوفاً على الضمير في " مَوْلاه " يعني المستتَر ، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه . وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و " صالحُ " عطفٌ عليه . والخبرُ محذوفٌ أي : مَواليه .