{ اليوم نَخْتِمُ على أفواههم } كناية عن منعهم من التكلم ، ولا مانع من أن يكون هناك ختم على أفواههم حقيقة .
وجوز أن يكون الختم مستعاراً لمعنى المنع بأن يشبه إحداث حالة في أفواههم مانعة من التكلم بالختم الحقيقي ثم يستعار له الختم ويشتق منه نختم فالاستعارة تبعية أي اليوم نمنع أفواههم من الكلام منعاً شبيهاً بالختم ، والأول أولى في نظري { وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي بالذي استمروا على كسبه في الدنيا وكأن الجار والمجرور قد تنازع فيه تكلم وتشهد ، ولعل المعنى والله تعالى أعلم تكلمنا أيديهم بالذي استمروا على عمله ولم يتوبوا عنه وتخبرنا به وتقول إنهم فعلوا بنا وبواسطتنا كذا وكذا وتشهد عليهم أرجلهم بذلك .
ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية كما في قوله تعالى : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ النبأ : 40 ] وقوله سبحانه : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 35 ] وقوله عز وجل : { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } [ الروم : 41 ] وقوله جل وعلا : { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] إلى غير ذلك ولا كذلك إلا رجل فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية ، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها فكأنها هي العاملة ، هذا مع ما في جمع التكليم مع الختم على الأفواه المراد منه المنع من التكلم من الحسن .
وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ } [ النور : 24 ] بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضاً في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق بها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص ههنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح بأمرها من الشهادة وعدمها ، والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون .
ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه ، نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة ، وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحداً بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولاً ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم إما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والاكتفاء بما كان قبل منهما وذلك إما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين ، وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى : { حتى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ فصلت : 20 ] فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والإبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه ، ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس ، وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود ، وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس } [ فصلت : 25 ] ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجيء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك ، وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى : { هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [ يس : 63 ، 64 ] فيكون ذلك عند المجيء إلى النار أيضاً ، قال في إرشاد العقل السليم : إن قوله تعالى : { اليوم نَخْتِمُ } الخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم وتحكي أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية ، لكن قال في موضع آخر : إن الشهادة تتحقق في موقف الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار ، والأخبار ظاهرة في ذلك .
أخرج ابن جرير . وابن أبي حاتم . عن أبي موسى الأشعري من حديث «يدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض ربه عليه عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم على فيه فإني أحسب أول ما تنطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم تختم على أفواههم الآية » وفي حديث أخرجه مسلم . والترمذي . والبيهقي عن أبي سعيد . وأبي هريرة مرفوعاً «إنه يلقى العبد ربه فيقول الله تعالى له أي فل ألم أكرمك إلى أن قال صلى الله عليه وسلم فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثنى بخير ما استطاع فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد على فيختم على فيه . ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله » .
وفي بعض الأخبار ما يدل على أن العبد يطلب شاهداً منه فيختم على فيه ، أخرج أحمد . ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له عن أنس في قوله تعالى : { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم } قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون مم ضحكت ؟ قلنا : لا يا رسول الله قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول : بلى فيقول : إني لا أجيز على ألا شاهداً مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل » والجمع بالتزام القول بالتعدد فتارة يكون ذلك عند الحساب وأخرى عند النار والقول باختلاف أحوال الناس فيما ذكر .
وما تقدم في حديث أبي موسى من أن الفخذ اليمنى أول ما تنطق على ما يحسب جزم به الحسن ، وأخرج أحمد وجماعة عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال " ثم الظاهر أن التكلم والشهادة بنطق حقيقة وذلك بعد إعطاء الله تعالى الأعضاء حياة وعلماً وقدرة فيرد بذلك على من زعم أن البينة المخصوصة شرط فيما ذكر وإسناد الختم إليه تعالى دون ما بعد قيل لئلا يحتمل الجبر على الشهادة والكلام فدل على أن ذلك باختيار الأعضاء المذكورة بعد إقدار الله تعالى فإنه أدل على تفضيح المحدث عنهم ، وهل يشهد كل عضو بما فعل به أو يشهد بذلك وبما فعل بغيره فيه خلاف والثاني أبلغ في التفظيع ، والعلم بالمشهود به يحتمل أن يكون حصوله بخلق الله تعالى إياه في ذلك الوقت ولا يكون حاصلاً في الدنيا ويحتمل أن يكون حصوله في الدنيا بأن تكون الأعضاء قد خلق الله تعالى فيها الإدراك فهي تدرك الأفعال كما يدركها الفاعل فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى لها ما كان وجعلها مستحضرة لما عملته أولاً وأنطقها نطقاً يفقهه المشهود عليه ، وهذا نحو ما قالوا من تسبيح جميع الأشياء بلسان القال والله تعالى عل كل شيء قدير والعقل لا يحيل ذلك وليس هو بأبعد من خلق الله تعالى فيها العلم والإرادة والقدرة حتى تنطق يوم القيامة فمن يؤمن بهذا فليؤمن بذلك ، والتشبث بذيل الاستبعاد يجر إلى إنكار الحشر بالكلية والعياذ بالله تعالى أو تأويله بما أوله به الباطنية الذين قتل واحد منهم قال حجة الإسلام الغزالي أفضل من قتل مائة كافر ، وعلى هذا تكون الآية من مؤيدات القول بالتسبيح القالي للجمادات ونحوها ، وعلى الاحتمال الأول يؤيد القول بجواز شهادة الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به بأي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره .
وقد أفاد الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في ترجمة القرآن أن قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] يفيد جواز ذلك ، وذكر فيه أن الشاهد يأثم إن لم يشهد بعلمه ، ولا يخفى عليك ما للفقهاء في المسألة من الكلام ، وكأن الشهادة على الاحتمال الثاني بعد الاستشهاد بأن يقال للأركان ألم يفعل كذا فتقول بلى فعل .
ويمكن أن تكون بعد أن تؤمر الأركان بالشهادة بأن يقال لها اشهدي بما فعلوا فتشهد معددة أفعالهم ، وهذا إما بأن تذكر جميع أفعالهم من المعاصي وغيرها غير مميزة المعصية عن غيرها ، وكون ذلك شهادة عليهم باعتبار الواقع لتضمنها ضررهم بذكر ما هو معصية في نفس الأمر ، وإما بأن تذكر المعاصي فقط ، وهذا يحتاج إلى التزام القول بأن الأركان تميز في الدنيا ما كان معصية من الأفعال ما لم يكن كذلك ولا أظنك تقول به ولم أسمع أن أحداً يدعيه . وذهب بعضهم إلى أن تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها بأن يبدل الله تعالى هيآتها بأخرى يفهم منها أهل الحشر ويستدلون بها على ما صدر منهم فجعلت الدلالة الحالية بمنزلة المقالية مجازاً ، وفيه أنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة لاسيما وما يأتي في سورة السجدة من قوله تعالى : { قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شيء } [ فصلت : 21 ] ظاهر جداً في النطق القالي والإخبار أظهر وأظهر ، نعم يهون على هذا القول أمر الاستبعاد ولا يكاد يترك لأجله الظواهر العلماء الأمجاد ، هذا والآية كالظاهرة في تكليف الكفار بالفروع إذ لو لم يكونوا مكلفين بها لا فائدة في شهادة الأعضاء بما كسبوا ، وإتمام الحجة عليهم بها وتخصيص ما كسبوا بالكفر مما لا يكاد يلتفت إليه ولا أظن أن أحداً يقول به بل ربما يدعي تخصيصه بما سوى الكفر بناءً على أنه من أفعال القلب دون الأعضاء التي تشهد لكن الذي يترجح في نظري العموم .
وشهادتها به إما بشهادتها بما يدل عليه من الأفعال البدنية والأقوال اللسانية أو بالعلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى لها ذلك اليوم أو بالعلم الحاصل لها بخلق لله تعالى في الدنيا فتعلمه بواسطة الأفعال والأقوال الدالة عليه أو بطريق آخر يعلمه الله تعالى ، وهي ظاهرة في أن الحشر يكون بأجزاء البدن الأصلية لا ببدن آخر ليس فيه الأجزاء الأصلية للبدن الذي كان في الدنيا إذ أركان ذلك البدن لم تكن الأعمال السيئة معمولة بها فلا يحسن الشهادة بها منها فليحفظ . وقرئ { يَخْتِمْ } للمفعول { بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } بتاءين ، وقرئ { وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ } بلام الأمر على أن الله تعالى يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة . وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ { *ولتكلمنا أيديهم ولتشهد } بلام كي والنصب على معنى لتكليم الأيدي إيانا ولشهادة الأجل نختم على أفواههم .
قال الله تعالى في بيان وصفهم الفظيع في دار الشقاء : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ } بأن نجعلهم خرسا فلا يتكلمون ، فلا يقدرون على إنكار ما عملوه من الكفر والتكذيب . { وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : تشهد عليهم أعضاؤهم بما عملوه ، وينطقها الذي أنطق كل شيء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْوَاهِهِمْ": اليوم نطبع على أفواه المشركين، وذلك يوم القيامة، "وَتُكَلّمُنا أيْدِيهِمْ "بما عملوا في الدنيا من معاصي الله، "وَتَشْهَدُ أرْجُلُهُمْ"... "بَمَا كانُوا يَكْسِبُونَ "في الدنيا من الآثام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وتُكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} كأنهم، والله أعلم، لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا كقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] وأمثاله، عند ذلك يأذن الله سائر جوارحهم وٍأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا كقوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} الآية [النور: 24] وقوله {شهد عليهم سمعهم} الآية [فصلت: 20]، ثم تنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله: {لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} [فصلت: 21].
وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان، ولكن للُطف يجعل الله ذلك في اللسان، فينطق، فحينما جعل ذلك اللطف والمعنى وفي أية جارحة ما جعل، نطقت وتكلمت، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان؛ فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل ما فيه به ينطق، ويتكلم. فحيثما جعل المعنى واللطف نطق، وتكلم. وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيرهما، جعل لطفا ومعنى، به يُسمع السمع، وبه يبصر البصر، وبه تأخذ، وتقبض اليد، وبه تمشي، وتذهب الرجل. فأينما جعل ذلك اللطف وذلك المعنى كان منه ذلك ما كان من السمع والبصر وغيره وكذلك الأطعمة والمياه، ليس الغذاء في عينها، ولكن في لطف، جعل الله فيها لطفا ومعنى، يصير غذاء لهم.
ألا ترى أن عين الطعام لا يبقى في المعدة، فيُرمى به، وينتفع بما فيه من الغذاء؟ والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اليومَ سَخَّرَ الله أعضاءَ بَدَنِ الإنسان بعضها لبعض، وغداً ينقض هذه العادة، فتخرج بعضُ الأعضاء على بعض، وتجري بينها الخصومة والنزاع...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
أنكر بعضهم كلام الجوارح وقال: معنى الكلام وجود دلالة تدل على أنها قد عملت ما عملت، والصحيح أنها تتكلم حقيقة، وغير مستبعد كلام الجوارح في قدرة الله تعالى.
الأول: أنهم حين يسمعون قوله تعالى: {بما كنتم تكفرون} [يس: 64] يريدون (أن) ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم ما أشركنا، وقالوا آمنا به، فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانهم من الجوارح فيعترفون بذنوبهم.
الثاني: لما قال الله تعالى لهم: {ألم أعهد إليكم} لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان، وفيه لطائف لفظية ومعنوية.
أما اللفظية فالأولى منها: هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال: {نختم} وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، لأنه لو قال تعالى: نختم على أفواههم وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا وقهرا والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال تعالى: {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} أي باختيارها بعد ما يقدرها الله تعالى على الكلام؛ ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
الثانية: منها هي أن الله تعالى قال: {تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي؛ لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى: {وما عملته أيديهم} أي ما عملوه وقال: {ولا تلقوا بأيديكم} أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها.
وأما المعنوية فالأولى: منها أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين، وشهادة العدو على العدو غير مقبولة، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق، غير مقبول الشهادة فجعل الله الشاهد عليهم منهم، لا يقال الأيدي والأرجل أيضا صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها؛ لأنا نقول في رد شهادتها قبول شهادتها؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم، والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور، لا بد من أن يكون مذنبا في الدنيا، وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا.
المسألة الثانية: الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم، ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم، كما قال تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم}، فلما ختم على أفواههم أيضا لزم أن يكون قولهم بأعضائهم، لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء، فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: (هل تدرون مم أضحك؟ -قلنا: الله ورسوله أعلم قال:- من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال: يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال: فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لك وسحقا فعنكن كنت أناضل) خرجه أيضا من حديث أبي هريرة. وفيه: (ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ومتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه).
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كأنه قيل: هل يحكم فيهم بعلمه، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة، بين أنه على أظهر من قواعد الدنيا، فقال مهولاً لليوم على النسق الماضي في مظهر العظمة؛ لأنه أليق بالتهويل: {اليوم نختم} أي بما لنا من عجيب القدرة المنشعبة من العظمة، ولفت القول إلى الغيبة إيذاناً بالإعراض لتناهي الغضب فقال: {على أفواههم} أي لاجترائهم على الكذب في الأخرى كما كان ديدنهم في الدنيا، وكان الروغان والكذب والفساد إنما يكون باللسان المعرب عن القلب، وأما بقية الجوارح فمهما خرق العادة بإقدارها على الكلام، لم تنطق إلا بالحق فلذلك قال: {وتكلمنا أيديهم} أي بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة.
{وتشهد أرجلهم} أي عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار.
{بما كانوا} أي في الدنيا بجبلاتهم {يكسبون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا يخذل بعضهم بعضاً، وتشهد عليهم جوارحهم، وتتفكك شخصيتهم مزقاً وآحاداً يكذب بعضها بعضاً، وتعود كل جارحة إلى ربها مفردة، ويثوب كل عضو إلى بارئه مستسلماً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وقوله: {اليَوْمَ} ظرف متعلق ب {نَخْتِمُ}.
والقول في لفظ {اليوم} كالقول في نظائره الثلاثة المتقدمة، وهو تنويه بذكره بحصول هذا الحال العجيب فيه، وهو انتقال النطق من موضعه المعتاد إلى الأيدي والأرجل.
وضمائر الغيبة في {أفواههم أيديهم أرجلهم يكسبون عائدة على الذين خوطبوا بقوله: {هذه جهنَّمُ التي كُنتم تُوعَدُون} [يس: 63] على طريقة الالتفات. وأصل النظم: اليوم نختم على أفواهكم وتكلمنا أيديكم وتشهد أرجلكم بما كنتم تكسبون. ومواجهتهم بهذا الإِعلام تأييس لهم بأنهم لا ينفعهم إنكار ما أُطلعوا عليه من صحائف أعمالهم كما قال تعالى: {إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14].
وقد طوي في هذه الآية ما ورد تفصيله في آي آخر فقد قال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 2223] وقال: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين} [يونس: 2829].
وإنما طُوِي ذكر الداعي إلى خطابهم بهذا الكلام لأنه لم يتعلق به غرض هنا فاقتصر على المقصود.
وقد يخيل تعارض بين هذه الآية وبين قوله: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]. ولا تعارض لأن آية يس في أحوال المشركين وآية سورة النور في أحوال المنافقين. والمراد بتكلم الأيدي تكلمها بالشهادة، والمراد بشهادة الأرجل نطقها بالشهادة، ففي كلتا الجملتين احتباك. والتقدير: وتكلمنا أيديهم فتشهد وتكلمنا أرجلهم فتشهد.
ويتعلق {بِمَا كانُوا يَكْسِبون} بكل من فعلي {تكلمنا وتشهد} على وجه التنازع. وما يكسبونه: هو الشرك وفروعه. وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما ألحقوا به من الأذى.