الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

قوله تعالى : " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : ( هل تدرون مم أضحك ؟ - قلنا : الله ورسوله أعلم قال : - من مخاطبة العبد ربه ، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال : يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال : ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ) خرجه أيضا من حديث أبي هريرة . وفيه : ( ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ومتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه{[13231]} انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ، وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه ) . وخرج الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال : وأشار بيده إلى الشام فقال : ( من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفِدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ) في رواية أخرى : ( فخذه وكفه ) الفدام مصفاة الكوز والإبريق . قاله الليث . قال أبو عبيد : يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق . ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه : أحدها : لأنهم قالوا " والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام : 23 ] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم . قاله أبو موسى الأشعري . الثاني : ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم . قاله ابن زياد . الثالث : لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز ، إن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز . الرابع : ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه صارت عليه شهودا في حق ربه . فإن قيل : لم قال " وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم " فجعل ما كان من اليد كلاما ، وما كان من الرجل شهادة ؟ قيل : إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل ؛ فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول ، وعما صدر من الأرجل بالشهادة . وقد روي عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى ) ذكره الماوردي والمهدوي . وقال أبو موسى الأشعري : إنى لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى . ذكره المهدوي أيضا . قال الماوردي : فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء ؛ لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها . قال : وتقدمت اليسرى ؛ لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها ؛ فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها .

قلت : أو بالعكس لغلبة الشهوة ، أو كلاهما معا والكف ، فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة . والله أعلم .


[13231]:الزيادة من صحيح مسلم.