النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

قوله عز وجل : { اليوم نختم على أفواههم } فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون منعها من الكلام هو الختم عليها .

الثاني : أن يكون ختماً يوضع عليها فيرى ويمنع من الكلام .

وفي سبب الختم أربعة أوجه :

أحدها : لأنهم قالوا { والله ربنا ما كنا مشركين }

فختم الله تعالى على أفواههم حتى نطقت جوارحهم ، قاله أبو موسى الأشعري .

الثاني : لِيَعرفهم أهل الموقف{[2314]} فيتميزون منهم ، قاله ابن زياد .

الثالث : لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الإلزام من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز وإن كان يوماً لا يحتاج فيه إلى الإعجاز .

الرابع : ليعلم أن أعضاءه التي كانت له أعواناً في حق نفسه صارت عليه شهوداً في حق ربه .

{ وتُكلِّمنا أيديهم وتشهدُ أرجلهم بما كانوا يكسبون } وفي كلامها ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنه يظهر منها سِمة تقوم [ مقام ] {[2315]} كلامها كما قال الشاعر :

وقد قالت العينان سمعاً وطاعة *** وحَدَّرتا كالدر لما يثَقّبِ

الثاني : أن الموكلين بها يشهدون عليها .

الثالث : أن الله تعالى يخلق فيها ما يتهيأ معه الكلام منها . روى الشعبي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقال لأركانه انطقي فتنطق بعمله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل{[2316]} " . فإن قيل فلم قال : { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } فجعل ما كان من اليد كلاماً ، وما كان من الرجل شهادة ؟

قيل لأن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه إقرار ، فلذلك عبّر عما صدر من الأيدي بالقول ، وعما صدر من الأرجل بالشهادة . وقد روى شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى " .

فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي في الشطر الأعلى من جسده ، وأقرب أعضاء الشطر الأسفل منها الفخذ ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها ، وتقدمت اليسرى لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها ، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها .


[2314]:في ك أهل المعرفة.
[2315]:زيادة يقتضيها السياق.
[2316]:رواه مسلم في الزهد رقم 2969.