فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ } قال المفسرون إنهم ينكرون الشرك وتكذيب الرسل كما في قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } فيختم الله على أفواههم ختما لا يقدرون معه على الكلام وفي هذا الفتات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم ثم قال :

{ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون باختيارها بعد إقدار الله تعالى لها على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم . وقرئ : لتكلمنا ولتشهد بلام .

كما قيل : سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف ، وقيل : ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز ، وقيل : ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم في معاصي الله صارت شهودا عليهم .

وجعل ما تنطق به الأيدي كلاما وإقرارا لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي وجعل نطق الأرجل شهادة لأنها حاضرة عند كل معصية ، وكلام الفاعل إقرار وكلام الحاضر شهادة ، وهذا اعتبار الغالب وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها .

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس في الآية قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجده قال : ( أتدرون مم ضحكت ؟ قلنا لا يا رسول الله قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم . فيقول : بلى . فيقول : إني لا أجيز علي إلا شاهدا مني فيقول : { كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا } بالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ) {[1405]} .

وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يلقى العبد ربه فيقول الله له ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى أي رب ، فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا ، فيقول : إني أنساك كما نسيتني ، ثم يلقى الثاني فيقول مثل ذلك ، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول : آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه . ويقال لفخذه : انطقي فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان ، وذلك ليعذر من نفسه ، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط عليه ) ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه{[1406]} .


[1405]:أحمد 2/ 48.
[1406]:أخرجه ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه.