ولما كان كأنه قيل هل يحكم في ذلك اليوم بعلمه ، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة ؟ نبه على أظهر من قواعد الدنيا بقوله تعالى مهولاً : { اليوم } على النسق الماضي في مظهر العظمة ؛ لأنه أليق بالتهويل { نختم } أي : بما لنا من عظيم القدرة { على أفواههم } أي : الكفار لاجترائهم على الكذب كقوله سبحانه { والله ربنا ما كنا مشركين } ( الأنعام : 23 ) { وتكلمنا أيديهم } أي : بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة { وتشهد أرجلهم } أي : عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار { بما كانوا } أي : في الدنيا بجبلاتهم { يكسبون } فكل عضو ينطق بما صدر عنه ، فالآية من الاحتباك أثبت الكلام للأيدي أولاً : لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً : وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً ؛ لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً .
وتقريبه : أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة ، وفي كيفية هذا الختم وجهان أقواهما أن الله تعالى يسكت ألسنتهم ، وينطلق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإن ذلك في قدرة الله تعالى يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فإن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فجاز تحريك غيره بمثلها والله سبحانه قادر على كل الممكنات .
والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم ، وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس لا يجدون عذراً فيعتذرون ، ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن .
والصحيح الأول لما روى أبو هريرة : «أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤيتهما قال : فيلقى العبد فيقول : ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتزايد وتترافع قال : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي فيقول : لا يا رب فيقول اليوم أنساك كما نسيتني إلى أن قال : ثم يلقى الثالث فيقول : ما أنت فيقول : أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ثم قال : فيقال له : أفلا نبعث عليك شاهدنا قال : فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه ، فيقال لفخذه : انطقي قال : فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، قال : وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه » .
ولما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال : «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : هل تدرون مم أضحك قال : قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه قال : يقول العبد : يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول تعالى { كفى بنفسك اليوم عليك } ( الإسراء : 14 ) وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقول لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لَكُنَّ أو سحقاً فعنكن كنت أناضل » وقال صلى الله عليه وسلم : «أول ما يسأل من أحدكم فخذه وكفه » .
تنبيه : ههنا سؤالات : الأول : ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال { نختم } وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل ، الثاني : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل ، الثالث : أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً ، وغير الصديقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم ، والأيدي والأرجل صدرت الذنوب عنها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتهم ؟
أجيب : عن الأول : بأنه لو قال : نختم على أفواههم وننطِق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } أي : بالاختيار بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم .
وأجيب عن الثاني : بأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى { وما عملته أيديهم } أي : ما عملوه وقال تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ( البقرة : 195 ) أي : ولا تلقوا أنفسكم فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهن .
وأجيب عن الثالث : بأن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكلف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه ، ولا يقال : ورد أن العين تزني وأن الفرج يزني وأن اليد كذلك ؛ لأن معناه أن المكلف يزني بها لا أنها هي تزني ، وأيضاً فإنا نقول : في رد شهادتها قبول شهادتها ؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لابد أن يكون مذنباً في الدنيا وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا ، وهذا كمن قال لفاسق : إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر فقال الفاسق : كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد ؛ لأنه إن صدق في قوله : كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووقع الجزاء ، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم فقد وجد الشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني : كذبت في نهار ذلك اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.