السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

ولما كان كأنه قيل هل يحكم في ذلك اليوم بعلمه ، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة ؟ نبه على أظهر من قواعد الدنيا بقوله تعالى مهولاً : { اليوم } على النسق الماضي في مظهر العظمة ؛ لأنه أليق بالتهويل { نختم } أي : بما لنا من عظيم القدرة { على أفواههم } أي : الكفار لاجترائهم على الكذب كقوله سبحانه { والله ربنا ما كنا مشركين } ( الأنعام : 23 ) { وتكلمنا أيديهم } أي : بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة { وتشهد أرجلهم } أي : عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار { بما كانوا } أي : في الدنيا بجبلاتهم { يكسبون } فكل عضو ينطق بما صدر عنه ، فالآية من الاحتباك أثبت الكلام للأيدي أولاً : لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً : وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً ؛ لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً .

وتقريبه : أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة ، وفي كيفية هذا الختم وجهان أقواهما أن الله تعالى يسكت ألسنتهم ، وينطلق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإن ذلك في قدرة الله تعالى يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فإن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فجاز تحريك غيره بمثلها والله سبحانه قادر على كل الممكنات .

والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم ، وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس لا يجدون عذراً فيعتذرون ، ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن .

والصحيح الأول لما روى أبو هريرة : «أن ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤيتهما قال : فيلقى العبد فيقول : ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتزايد وتترافع قال : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي فيقول : لا يا رب فيقول اليوم أنساك كما نسيتني إلى أن قال : ثم يلقى الثالث فيقول : ما أنت فيقول : أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ثم قال : فيقال له : أفلا نبعث عليك شاهدنا قال : فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه ، فيقال لفخذه : انطقي قال : فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، قال : وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه » .

ولما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال : «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : هل تدرون مم أضحك قال : قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه قال : يقول العبد : يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول تعالى { كفى بنفسك اليوم عليك } ( الإسراء : 14 ) وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقول لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لَكُنَّ أو سحقاً فعنكن كنت أناضل » وقال صلى الله عليه وسلم : «أول ما يسأل من أحدكم فخذه وكفه » .

تنبيه : ههنا سؤالات : الأول : ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال { نختم } وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل ، الثاني : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل ، الثالث : أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً ، وغير الصديقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم ، والأيدي والأرجل صدرت الذنوب عنها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتهم ؟

أجيب : عن الأول : بأنه لو قال : نختم على أفواههم وننطِق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } أي : بالاختيار بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم .

وأجيب عن الثاني : بأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى { وما عملته أيديهم } أي : ما عملوه وقال تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ( البقرة : 195 ) أي : ولا تلقوا أنفسكم فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهن .

وأجيب عن الثالث : بأن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكلف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه ، ولا يقال : ورد أن العين تزني وأن الفرج يزني وأن اليد كذلك ؛ لأن معناه أن المكلف يزني بها لا أنها هي تزني ، وأيضاً فإنا نقول : في رد شهادتها قبول شهادتها ؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لابد أن يكون مذنباً في الدنيا وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا ، وهذا كمن قال لفاسق : إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر فقال الفاسق : كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد ؛ لأنه إن صدق في قوله : كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووقع الجزاء ، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم فقد وجد الشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني : كذبت في نهار ذلك اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه .