{ رَبّ قد ءاتيتني من الملك } أي بعضاً عظيماً منه فمن للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام ، وبعضهم قدر عظيماً في النظم الجليل على أن مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء ، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن { الملك } ما يعم مصر وغيهرا ، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى : { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الارض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء } [ يوسف : 56 ] لأنه لم يكن مستقلاً فيه وإن كان ممكناً فيه وفيه تأمل ، وقيل : أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته ، وقال عطاء ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك { وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث } أي بعضاً من ذلك كذلك ، والمراد بتأويل الأحاديث أما تعليم تعبي الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء ، وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك ، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل( {[437]} ) . وقرأ عبد الله وابن ذر { *آتيتن وعلمتن } بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة ، وحكى ابن عطية عن الأخير { رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى } بغير { قَدْ } { فَاطِرَ * السموات والارض } أي مبدعهما وخالقهما ، ونصبه على أنه نعت لرب أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادي ثان ، ووصفه تعالى به بعدو صفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادىء ما يعقبه من قوله : { رَبّ قَدْ } متولى أموري ومتكفل بها أو موالي لي وناصر { فِى الدنيا والاخرة } فالولي إما من الولاية أو الموالاة ، وجوز أن كيون بمعنى الموالي كالمعطي لفظاً ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة { تَوَفَّنِى } أقبضني { مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } من آبائي على ما روى عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل ، واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلق اللحاق بمن هو في البداية ؟ وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضماً لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم السلام ، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحق وإبراهيم عليه السلام ، وقال الإمام : ههنا وههنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء ، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفاً متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الإشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك ههنا انتهى .
وهو كما ترى ، والحق أن يقال : إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفاً والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح ، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه .
بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمنى للموت وطلب منه أم لا ؟ فالكثير منهم على أنه طلب وتمنى لذلك ، قال الإمام : ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه ، وأيضاً يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام ، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته ، وكذا الإمارة والرياسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك ، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه ، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب ، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه مستقذر في نفسه ؛ ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الإنسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الإنسان باللوزينج ، وقد قال العقلاء : من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه ، والجماع نهاية ما يقال فيه : إنه إخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك ، وفيه أيضاً تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولد الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك ، والرياسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره إليها فصاحبها لم يزل خائفاً وجلا من ذلك لكفاها عيباً ، وقد يقال أيضاً ؛ إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول إليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالباً لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات ، وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب ، ولله تعالى قول من قال : وقال :
ضجعة الموت رقدة يستريح ال *** جسم فيها والعيش مثل السهاد
تعب كلها الحياة فما أع *** ب إلا من راغب في ازدياد
إن حزناً فس ساعة الفوت أضعا *** ف سرور في ساعة الميلاد
وقد ذكر غير واحد أن تمني الموت حباً للقاء الله تعالى مما لا بأس به ، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها : «من أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه » الحديث . نعم تمنى الموت عند نزول اللابء منتهى عنه ففي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، وقال قوم : إنه عليه السلام لم يتمن الموت وإنما عدد نعم الله تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين .
والحاصل أنه عليه السلام إنما طلب الموافاة على الإسلام لا الوفاة ، ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام لا يموتون إلا مسلمين أما لأن الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه الله تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وإن لم يتخلف ليس إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته( {[438]} ) والذاهبون إلى الأول قالوا إنه عليه السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله تعالى وكان الحسن يذهب إلى القول الثاني ويقول : إنه عليه السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون أن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف أربعاً وعشرين سنة ثم توفى وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثاً وعشرين سنة وقيل : أكثر ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله تعالى طيباً طاهراً فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصل ليكونوا شرعاً فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه السلام نقله إلى مدفن آبائه فأخرجه بعد أربعمائة سنة على ما قيل : من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك ، وكان عمره مائة وعشرين سنة ، وقيل : مائة وسبع سنين ، وقد ولد له من امرأة العزيز افراثيم وهو جد يوشع عليه السلام . وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه السلام ، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم السلام إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام فكان ما كان .
وفي التوراة أن يوسف عليه السلام أسكن أباه وإخوته في مكان يقال له عين شمس من أرض السدير وبقي هناك سبع عشرة سنة وكان عمره حين دخل مصر مائة وثلاثين سنة ولما قرب أجله دعا يوسف عليه السلام فجاء ومعه ولداه( {[439]} ) منشا وهو بكره وافرايم فقدمهما إليه ودعا لهما ووضع يده اليمنى على رأس الأصغر واليسرى على رأس الأكبر وكان يوسف يحب عكس ذلك فكلم أباه فيه فقال : يا بني إني لأعلم أن ما يتناسل من هذا الأصغر أكثر مما يتناسل من هذا الأكبر ودعا ليوسف عليه السلام وبارك عليه وقال ؛ يا بني إني ميت كان الله تعالى معكم وردكم إلى بلد أبيكم يا بني إذا أنا مت فلا تدفنني في مصر وادفني في مقبرة آبائي وقال : نعم يا أبا وحلف له ثم دعا سائر بنيه وأخبرهم بما ينالهم في أيامهم ثم أوصاهم بالدفن عند آبائه في الأرض التي اشتراها إبراهيم عليه السلام من عفرون الختى في أرض الشام وجعلها مقبرة ، وبعد أن فرغ من وصيته عليه السلام توفي فانكب يوسف عليه السلام عليه يقبله ويبكى وأقام له حزناً عظيماً وحزن عليه أهل مصر كثيراً ثم ذهب به يوسف وإخوته وسائر آله سوى الأطفال ومعهم قواد الملك ومشايخ أهل مصر ودفنوه في المكان الذي أراد ثم رجعوا ، وقد توهم إخوة يوسف منه عليه السلام أن يسيء المعاملة معهم بعد موت أبيهم عليه السلام فلماعلم ذلك منهم قال لهم : لا تخافوا إني أخاف الله تعالى ثم عزاهم وجبر قلوبهم ثم أقام هو وآل أبيه بمصر وعاش مائة وعشر سنين حتى رأى لافرايم ثلاثة بنين وولد بنو ماخير بن منشا في حجره أيضاً ، ثم لما أحس بقرب أجله قال لإخوته : إني ميت والله سبحانه سيذكركم ويردكم إلى البلد الذي أقسم أن يملكه إبراهيم وإسحق . ويعقوب فإذا ذكركم سبحانه وردكم إلى ذلك البلد فاحملوا عظامي معكم ثم توفى عليه السلام فحنطوه وصيروه في تابوت بمصر وبقى إلى زمن موسى عليه السلام فلما خرج حمله حسبما أوصى عليه السلام( {[440]} ) .
( ومن باب الإشارة { رَبّ قَدْ ءاتَيْتَنِى مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السموات والأرض أَنتَ وَلِيي في الدنيا والآخرة تَوَفَّنِى مُسْلِمًا } مفوضاً إليك شأني كله بحيث لا يكون لي رجوع إلى نفسي ولا إلى سبب من الأسباب بحال من الأحوال ، { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } [ يوسف : 101 ] بمن أصلحتهم لحضرتك وأسقطت عنهم سمات الخلق وأزلت عنهم رعونات الطبع ، ولا يخفى ما في تقديمه عليه السلام الثناء على الدعاء من الأدب وهو الذي يقتضيه المقام