إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (101)

ورُوي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفِنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاقَ فمضى بنفسه ودفنه ثمةَ ثم عاد إلى مصرَ وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمرُه وعلِم أنه لا يدوم له تاقت نفسُه إلى المُلك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال : { رَبّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } أي بعضاً منه عظيماً وهو ملكُ مصرَ { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } أي بعضاً من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرارِ الكتب الإلهية ودقائقِ سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالترتيبُ ظاهر ، وأما إن أريد به تعليمُ تعبيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه ، ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه ، وأما الواقعُ هاهنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطفُ بحرف الواو ، ولا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود { فَاطِرَ السموات وَالأَرْضِ } مُبدعَهما وخالقَهما ، نُصب على أنه صفةٌ للمنادى ، أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادىء ما يعقُبه من قوله : { أَنْتَ وَلِيِّي } مالكُ أموري { في الدنيا والآخرة } أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا { توفني } اقتضني { مُسْلِمًا وألحقني بالصالحين } من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك ، قيل : لما دعا توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتاً من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعاً واحداً في التبرك به ، ووُلد له أفراييم وميشا ، ولأفراييم نونٌ ، ولنونٍ يوشعُ فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام .