اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (101)

قوله تعالى : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } الآية قرأ عبد الله : ( آتيتن وعملتن ) بغير ياء فيهما . وحركة ابنُ عطية أن أبا ذر قرأك " أتَيْتَنِي " بغير ألف بعد الهمزة ، و " مِن " في " مِنَ المُلْكِ " ، وفي : " مِنْ تَأويلِ " للتبعيض والمفعول محذوف أي : عظيماً من الملك ، فهي صفة لذلك المحذوف . وقيل : زائدة . وقيل : لبيان الجنس ، وهذان بعيدان . و " فَاطِرَ " يجوز أن يكون نعتاً ل " ربِّ " ويجوز أن يكون بدلاً أو بياناً ، أو منصوباً بإضمار أعني أو نداء ثانياً .

فصل

لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام عَلِمَ أنَّ نعيم الدُّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة ، فقال : { رب قد ءاتيتني من الملك } يعني ملك مصر ، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة ، والتدبير . { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } يعني تعبير الرؤيا .

قوله : { فَاطِرَ السماوات والأرض } يعني : يا فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليَّ اعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فَطرتَهَا وأنا ابْتدأت حَفْرهَا .

وقل أهلُ اللغة : أصلُ الفَطْر : الشَّقُّ ، يقال : فطرت نابُ البعير ، إذا بدا ، وفطرتُ الشَيء ، فانفطر ، إذا شَقَقْتهُ ، فانشقَّ ، وتفطَّرتِ الأرض بالنَّبات والشَّجر بالورق ، إذا تصدَّعتْ .

هذا أصله في اللغة ، ثمَّ صارت عبارة عن الإيجاد ؛ لأنَّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنَّه في ظلمة وخفاءٍ ، فلمَّا دخل في الوجود ، صار كأنَّه انشقَّ ، وخرج ذلك الشيء منه .

{ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } أي : اقبضني إليك مسلماً ، وألحقين بالصالحين يريد بآبائي النبيين .

قال قتادة : لم يسأل نبيٌّ من الأنبياء الموت إلا يوسف ، وبه قال جماعة من المفسرين .

وقال ابن عباس رضي الله عنه في رواية عطاء : يريد : إذا توَفَّيْتني ، فتوفَّني على الإسلام .

فصل

دل قوله { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } على أنَّ الإيمان من الله ؛ لأنَّه لو كان من العبد ، لكان تقديره : كأنَّه يقول : افعل يا مَنْ لا يَفْعَل .

قالت المعتزلة : إذا كان الفعل من الله ، فكيف يجوزُ أن يقال للعبد : افعل مع أنَّك لست فاعلاً ؟ فيقال لهم : إذا كان تحصيل الإيمان ، وابقاؤه من العبد لا من الله ، فكيف يطلب ذلك من الله تعالى .

قال الجبائي والكعبي : معناه : أطلب اللُّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه ، وهذا الجواب ضعيفٌ ، لأن السؤال وقع عن الإسلام ، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر ، وأيضاً : فكُلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف ، فقد فعله ، كان طلبه من الله محالاً .

فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون أنَّهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدُّعاء طلباً لتحصيل الحاصل ، وأنَّه لا يجوز .

فالجواب : أن كمال حال المسلم : أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرُّ قلبه على ذلك الإسلام ، ويرضى بقضاء الله ، وتطمئن النفس ، وينشرح الصدر في هذا الباب ، وهذه حالةٌ زائدة عن الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر ، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى .

فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان من أكابر الأنبياء ، والصَّلاح أول درجات المؤمنين ؛ فالواصل إلى الغية كيف يليق به أن يطلب البداية ؟ .

قال ابن عبَّاس رضي الله عنه وغيره : يعني ب " آبَائهِ " : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ، ودرجاتهم ، ومراتبهم .

" روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل عليه السلام عن ربِّ العزَّة قال : " مَنْ شغلهُ ذِكرِي عَن مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفضلَ ما أعْطِي السَّائلين " .

فلهذا من أراد الدعاء ، لا بُدَّ وأن يقدِّم عليه الثَّناء على الله تعالى فههنا يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا أراد الدعاء قدَّم عليه الثناء ، فقال { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة } ثم دعا عقبه ، فقال : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } وكذلك فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] إلى قوله : { يَوْمَ الدين } [ الشعرا : 82 ] فهذا ثناءٌ ثمَّ قال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } [ الشعراء : 83 ] إلى آخر كلامه .