الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞رَبِّ قَدۡ ءَاتَيۡتَنِي مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِي مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّـٰلِحِينَ} (101)

قوله تعالى : " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث " قال قتادة : لم يتمن الموت أحد ، نبي ولا غيره إلا يوسف عليه السلام ، حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل . وقيل : إن يوسف لم يتمن الموت ، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام ، أي إذا جاء أجلي توفني مسلما ، وهذا قول الجمهور . وقال سهل بن عبدالله التستري : لا يتمنى الموت إلا ثلاث : رجل جاهل بما بعد الموت ، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه ، أو مشتاق محب للقاء الله عز وجل . وثبت في الصحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ) رواه مسلم . وفيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع{[9290]} به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا ) . وإذا ثبت هذا فكيف يقال : إن يوسف عليه السلام تمنى الموت والخروج من الدنيا وقطع العمل ؟ هذا بعيد ! إلا أن يقال : إن ذلك كان جائزا في شرعه ، أما أنه يجوز تمني الموت والدعاء به عند ظهور الفتن وغلبتها ، وخوف ذهاب الدين ، على ما بيناه في كتاب " التذكرة " . " ومن " من قوله : " من الملك " للتبعيض ، وكذلك قوله : " وعلمتني من تأويل الأحاديث " لأن ملك مصر ما كان كل الملك ، وعلم التعبير ما كان كل العلوم . وقيل : " من " للجنس كقوله : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان{[9291]} " [ الحج :30 ] وقيل : للتأكد . أي آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث .

قوله تعالى : " فاطر السماوات والأرض " نصب على النعت للنداء ، وهو رب ، وهو نداء مضاف ، والتقدير : يا رب ! ويجوز أن يكون نداء ثانيا . والفاطر الخالق ، فهو سبحانه فاطر الموجودات ، أي خالقها ومبدئها ومنشئها ومخترعها على الإطلاق من غير شيء ، ولا مثال سبق ، وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " مستوفى{[9292]} ، عند قوله : " بديع السماوات والأرض " [ البقرة : 117 ] وزدناه بيانا في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى . " أنت وليي " أي ناصري ومتولي أموري في الدنيا والآخرة . " توفني مسلما وألحقني بالصالحين " يريد آباءه الثلاثة ، إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فتوفاه الله - طاهرا طيبا صلى الله عليه وسلم - بمصر ، ودفن في النيل في صندوق من رخام ، وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه ، كل يحب أن يدفن في محلتهم ، لما يرجون من بركته ، واجتمعوا على ذلك حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل من حيث مفرق الماء بمصر ، فيمر عليه الماء ، ثم يتفرق في جميع مصر ، فيكونوا فيه شرعا ففعلوا ، فلما خرج موسى ببني إسرائيل أخرجه من النيل : ونقل تابوته بعد أربعمائة سنة إلى بيت المقدس ، فدفنوه مع آبائه لدعوته : " وألحقني بالصالحين " وكان عمره مائة عام وسبعة أعوام . وعن الحسن قال : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة ، ثم جمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنه ؛ وكان له من الولد إفراثيم ، ومنشا ، ورحمة ، زوجة أيوب ، في قول ابن لهيعة . قال الزهري : وولد لإفراثيم - بن يوسف - نون بن إفراثيم ، وولد لنون يوشع ، فهو يوشع بن نون ، وهو فتى موسى الذي كان معه صاحب أمره ، ونبأه الله في زمن موسى عليه السلام ، فكان بعده نبيا ، وهو الذي افتتح أريحا ، وقتل من كان بها من الجبابرة ، واستوقفت له الشمس حسب ما تقدم في " المائدة " {[9293]} . وولد لمنشا بن يوسف موسى بن منشا ، قبل موسى بن عمران . وأهل التوراة يزعمون أنه هو الذي طلب العالم ليتعلم منه حتى أدركه ، والعالم هو الذي خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وبنى الجدار ، وموسى بن منشا معه حتى بلغه معه حيث بلغ ، وكان ابن عباس ينكر ذلك ، والحق الذي قاله ابن عباس ، وكذلك في القرآن . ثم كان بين يوسف وموسى أمم وقرون ، وكان فيما بينهما شعيب ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .


[9290]:قيل: وجه صحة عطفه على النفي من حيث إنه بمعنى النهي. وقال ابن حجر: فيه إيماء إلى أن الأول نهي على بابه، ويكون قد جمع بين لغتي حذف حرف العلة وإثباته.
[9291]:راجع ج 12 ص 54.
[9292]:راجع ج 2 ص 86 فما بعد.
[9293]:راجع ج 6 ص 130 فما بعد.